Culture Magazine Thursday  02/04/2009 G Issue 277
فضاءات
الخميس 6 ,ربيع الثاني 1430   العدد  277
إنّ الهوى إنساني!!
د. أشجان هندي

 

من كان فقيراً فليس منّا!

من كان يتيماً فليس منّا!

ومن كان منّا فليس منّا!

أما الفقير فعنه صد، ومنه لا تقترب؛ وتبرّأ منه ما استطعت وإن كان جارك، أو كان من أهل بيتك أو من بني جلدتك. فإن الفقرَ عارٌ إن التصق بجسدك صرت من المنبوذين الذين لا يطلب صحبتهم إلا مجنون أو هالك! ولا تصاحب إلا من تسيل بأرصدته شعابُ بنوك سويسرا وضواحيها فإنه على تلميع صورتك لأقدر، وإنّ في قربه لمجلبةٌ للرفعة المُلتبسة بكل ما هو أرضيٌ ودنيوي، وبالتالي بكل ما هو غير زائل! فما الذي يدفعك أصلاً إلى الاعتراف بوجود فقير إن كنت تعيشُ في مجتمع حُرّم على جسده الفقرُ حُرمة النار على أجساد الطيبين؟

وأما اليتمُ البائس؛ فما الذي يحرّضك على ضمّ جسده الصغير؟ وما الذي يغريك بالبكاء تحت جلال دموعه؟ بل ما الذي يدفعك إلى الاعتراف بوجوده -أصلاً- إن كنت تعيشُ في مجتمع لا يعرف أفراده الموت، بل هم بشرٌ أحياء يتناسلون من أحياء لا يعرفون الفناء، ولا يعترفون بالموت أو العدم؟ أيها الكامل في عدد أفراد أسرته أبد الدهر: لا تقبل العيشَ في وطن فيه يتيم؛ فإن اليُتمَ عارٌ عصيٌ على المحو؛ لا يخبره إلا مسكينا، ولا يجرّبه إلا من كان من الضالين. فمالك وصحبة الأيتام المحرومين؟

الفقيرُ واليتيمُ والمظلومُ والضعيفُ والعجوزُ والعاجزُ وأضف المجنونَ إليهم إن شئت؛ جميعهم في هذه الأرض يعذّبون لأنهم خطّاؤون مسؤولون عن عجزهم وضعفهم وضياع عقولهم وحقوقهم. وهم مسؤولون - دون أدنى شك - عن مذاق آلامهم التي شربوها مختارين! فما بال روحك تسعى إليهم سعي الناسك إلى حزمة الضوء.. أيها المبصرةُ روحه؟

وأما من ادّعى جهاراً أنه منك وأنت منه وأعلنها علانيةً، ثم كررها ثلاثا؛ فاستتبته ولم يتب؛ فتحرّى - كما ينبغي لمثلك من العارفين بجذور الأشجار - عن أصل تربته! واقطع عليه كلَ وسيلة تقرّبه منك، أو تقرّبك منه. وإن اكتشفت بعد جهد أن أصلَ شجرتكم واحد، وأنكم تنتمون إلى تراب واحد عُجنتم منه فكنتم أحياء، وفيه ستذوبون متحللين حين تعودون أمواتا؛ فاستلّ أصلكَ من أرض تختلط فيها جذورك بجذوره، وفرّ منه في حياتك قبل مماتك، ثم انجُ بنفسك من هذا الاندماج الكوني المدمّر، ونقّ فروعك من كل ما قد يفسد محصول أرضك.. أيها المسكين!

اجمع شتاتَ فمك أيها المتكلم وقل زوراً أو اصمت؛ فليس منّا من يكشف المستور، وليس منّا من لم يُلمّعنا كما ينبغي لجمالنا، وليس منّا من أحسّ بنا، أو من أحسن الظنّ فينا، ولا منّا من آلمَهُ أن نتنفس في الهامش ونحن نظن أننا موغلون في عمق المركز! جاملنا على حساب مصلحتنا؛ فهذا ما نطلبه، وأدم ثناءك ممطراً على ألمنا الذي لم تقترفه يدانا؛ فهذا ما تطربُ له آذاننا. فقط اجعلنا مُقمرين ما استطعت داخل بيتنا الواحد، ولا تكشف وجه همومنا أمام إخوتنا؛ فيكيدون لنا كيدا، ويشمتون بنا شماتة!!! أسرف في حديثك عن أفراحنا ومباهجنا، ودع وجعنا جانبا فإن وجعنا الإنساني ليس من شأنك أيها الإنسان!

أيّها الإنسان: جرّب لذة أن يكون هواك إنسانيا، فإن في ذلك حلاوةً لا يخبرها إلا من جرّبها. أيتها الأرواحُ التي تسيرُ في عتمة أعمتها عن رؤية نور تدورُ به الصدور، أيتها الأنفس التي ترقدُ في عتمة الغيّ والمكابرة: العتمةُ نائمةٌ.. واللهُ سيلعنُ من يوقظها!

أمّا الحبُ: فإنه حزمةُ نور خالصةٌ للإنسان كائنا من كان؛ هناك حيث تختفي هيمنةُ اللون، وتخبو نعرةُ العِرق، ويخمدُ ضلالُ الأنا، ولا يفوحُ إلا طيب عطر الإنسان الذي خلقه الله طاهرَ الروحِ نقي البصيرة؛ فاختار بيده أن ينحاز إلى ضلال الطين وعمى القلوب.

وأما الهوى: فإنه إنسانيٌ عالميٌ كونيٌ لا يعرفه إلا من فارق محلّيته الضيقة مختارا؛ ليحلّق في ملكوتِ اللهِ الأرحب؛ حيث تحلّق النسورُ والهممُ العاليةُ والأرواحُ المضيئةُ المطمئنّة، وحيث يحاولُ الصعودَ على أكتاف أجنحته من لم يعتادوا إلا الحبو!

وأما من قرأ مقالي هذا ولم يكن فقيراً ولا يتيماً ولا منتمياً إلى جسد وطن واحد: فعليه بملازمةِ الاستغفار، والتوبة عن قراءةِ ما أكتب؛ فمثلي لا تتورّعُ عن المجاهرةِ بعشقِ الفقراءِ والأيتامِ، ومثلي لا تقفُ بشموخ مُحب إلا مع المنتمينَ الشرفاء الداعينَ إلى وحدةِ الجسدِ الواحد - الوطن الواحد، بل وتتجاوزهُ إلى هُيام بوحدةِ الكونِ الواحد - ملكوتُ الله الواحد.

الفقراءُ، والأيتامُ، والمتألمونَ دونما خطيئة، وأهلُ البيتِ الواحد: هم أصلي، وهم أهلي وخاصّتي، هم أرضي وحدودُ خارطتي وعشقي، وإليهم بفخر كبير أنتمي. الوطنُ الواحدُ هو وطنيُ، ومن يغيبُ في خطابهم عن الأوطانِ ضميرُ (هم)، وضميرُ (أنتم)، ولا يحضرُ إلا ضمير (نحن) - واحداً أوحداً موحّداً - هم جسدي الواحد، ومن لم يكن منهم فإنه ليس مني.

وأمّا من قرأ مقالي هذا فصدق كلّ ما جاء فيه من القراءة الأولى: فعليه بإعادةِ قراءته متأملاً هادئا، خالي البالِِِ من كل لؤم وقبح لا يليقُ إلا بالزائفين وعميان البصيرة.

فلٌ أبيضُ أهديه إلى من كتب بالقربِ من صورتي في عدد الجزيرة الثقافية الماضي، وإلى كل من تحدث باسمهم: أما وأنّ لأسلوبِ الخطابِ - وفي كل اللغاتِ والأزمنة - أصولاً لا يجهلها إلا جاهل ولا يُغفلها إلا غافل: فإنّ الخطابَ الموجّه إلى قائدٍ مُحب محبوب لا يُسمّى معروضا!!! خاصةً إن كان هذا القائدُ الكبيرُ يقبلُ منك - وبقلب ووعي كبير - أن تخاطبه بكنيته... هكذا ودونما ألقابٍ هو ليس بحاجة إليها لأنه في المقام الأول إنسانٌ من طراز رفيع. عندها عليك - وهذا أضعفُ الإيمان - أن تتأدبَ في خطابك معه. ولأنك تحبه قائداً وتعلمُ أنه يحبك مواطناً، ولأنّ قلبك مطمئنٌ إلى ذلك؛ فإنّ ما تطلبهُ منه لا يُسمّى استجداء!!

هذا ما يقوله أسلوبُ الخطاب في كل لغات الكون لا لغات البشر فقط ... أيها البشر!

غادروا الأطلالَ، واستقرئوا بحب واقعاً نبنيه ونعيشه. اهجروا التفكيرَ في عهد المعاريض، وهاجروا إلى عهد الحوار والمحبة، لنتحدث في مواجعنا بعلانية واعية، ونعينُ من يحبنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ فإنّ في ذلك تمام عافية الجسد الواحد.

المحبةُ والسلامُ لأرواحكم جميعاً.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة