منذ صغري وأنا أقدّر رغبتي في أن أكون صديقاً لجزار. لا أعلم لهذه الرغبة أصلاً، ربما لأنه تفتنني عضلاته المتحجرة وساعداه المفتولان، أو لأني عشت في كنف أب طيب جداً لحد الذل. لكن تلك الرغبة ظل يحبسها خوفا من الجزار نفسه. دوماً أشبه نفسي بمن يحاول الإقدام على الانتحار بينما هو يخشى الموت. أخذ خوفي الدائم من الجزار وتوجسي من ساطوره يكبران معي. فاليوم يشهد ما نبت على وجهي من شاربي على الجزء الظاهر من رجولتي، ومع ذلك أجد اضطراباً يسوق أقدامي إليه في كل مرة.
كلما هممت بالذهاب لأبتاع للعائلة لحماً تتراءى لي على الدوام وصايا أبي اللحوحة بأن أشتري لحماً به أقل قدر من العظام والشحم. لا أجد صعوبة في إقناع نفسي بأنه لا بد من وجود العظام والشحم فيما ابتعت من لحم بقدر ما أجد في إقناع أبي. أفعل ذلك لئلا أشعر بأني قد غُششت ولأُشعر أبي بأنه لا يمكن نزع العظم والشحم بالكلية.
في مدينتي حيث لا سعر محدداً لشيء، كل يبيع ويشتري في حدود مهارته في المفاوضة وقدرته على الإقناع. هذا هو القانون البيّن لدى البائع والمشتري. ولما وجد أبي فيّ براعة كبيرة في المفاوضة على السعر أوكل إلي ميزانية العائلة منذ وقت مبكر. كنت أستمتع لرؤية وجه البائع، أي بائع، في كل مرة يرتدي ابتسامة الغبن. الجزار كان استثناء وحيداً، فلم أعهد أبداً أن قد ناقشته في سعر كيلو اللحم الذي يزيد وينقص لأسباب لا نعلمها. هنا في محل الجزار عادةً أكون أنا من يبتسم ابتسامة الغبن.
هذه المرة نويت أن أضرب بسهمي في عالم الجزار وأن أحظى بنصيبي من صداقاته. قد يشفع لي شاربي النابت للتو وأمارات الرجولة التي تتجلى على وجهي. وهكذا رأيت أن فرصتي كبيرة هذه المرة. ما إن أفصحت عن مرادي من اللحم حتى استجاب الجزار لطلبي فوراً. انتصب ثم تناول مريلة بيضاء كانت متعلقة على الجدار فأحكم حزقها من فوق سرته. شحذ ساطوره بخفة ثم اتجه إلى ركن المحل حيث ثمة جذع غليظ فرك سطحه بشحمة مجمدة جاء بها من الثلاجة. وقفت أتابعه باهتمام في حين يعدّ للجريمة مسرحها. بدت أسنانه الفلجاء وهو يعض بثنيتيه على شفته السفلى.
يطيش الساطور في سماء المحل، ولكن بوقار. عِلق سوداء تتعلق بمريلة الجزار وحول كل علقة تمددت جزيرة صغيرة من الدم. وفي كل مرة يضرب بساطوره تطير علقة وتمدد جزيرة دم. وهو في صمته لا يكلف نفسه عناء ميلاد كلمة، وثنيتاه الفلجاوان تنغرزان في شفتيه أكثر من ذي قبل.
لو أننا نباتيون، فكرت، لفقد هذا الجزار مركزه في هذه المدينة. لكنه الآن يتمتع بوضع حر ومقيد في آن معاً، فهو لا يفتح دكانه ما لم يتوفر اللحم، ولا يقفله قبل أن يبيع ما لديه من لحم. وهذا يعني أنه ربما أغلق الدكان في بداية النهار، وربما أغلقه في وقت متأخر من الليل.
أرصد حركة الساطور، فيرفّ جفناي كلما هوى على اللحمة التي تئن تحته. وكلما زار قلبي الخوف اعتصمت بالطاولة بيني وبين الجزار. تأملت فلغة بدت قديمة في جبهته ينعكس عليها ضوء المصباح. من الذي ضربك على جبينك أيها الجزار؟ سؤال لن أتغابى وأطرحه لو صاحبني الجزار في يوم من الأيام. لن يخون الجزار ساطوره ، أو لن يخون الساطور جزاره. المهم، لا مجال للخيانة. حتى زوجة الجزار لن تفكر فيها مجرد تفكير إطلاقاً. أيضطر الجزار لأن يحمل ساطوره إلى بيته كل ليلة؟ سقطت قطعة لحم على البلاط طاشت من فوق الجذع الصامد. انحنى عليها وأخذها بيده اليسرى ثم قذف بها بين اللحم ولم يغسلها. اصطاد عينيّ وهما تحدقان في جرح قد تقشقش في ظهر ساعده. نظر إليّ فقابلت نظرته بابتسامة جبانة.
هذه المرة حتماً سيقبل بصداقتي. ابتساماتي تستنكر مني إطلاقها على هذا النحو وبهذا العدد.
لو كنت ابناً للجزار أيام الدراسة، أو قل صديقاً له، ما كنت تعرضت للركل كل حين من الوغد حسام، ولما استهزأ معلم التربية الرياضية بعمامتي التي لا أتخلى عنها لحظة. كأنّي بحسام عندما أقدمه بيديّ لساطور الجزار تتسرب روحه إلى قدميه، فيخور عند باب المحل كحمار قيد إلى ضبع. وكأنّي بمعلم التربية الرياضية يفلت من قبضة الجزار لخفّته، ثم يهرب في ذل والضحكات تحاكي ضياع نعليه اللتين تطيران في الهواء.
ما أردت قط أن أصاحب إنسياً أكبر مني غير الجزار. (لا تصاحب أكبر منك، إما حشّك وإما نشّك وإما ...) الاحتمالات الواضحة في المثل الشعبي تتكسر على حرف الساطور كما تتكسر محاولات الذباب للدخول إلى المحل. هذا الذباب الذي ينتظر في الخارج، يحشر بطونه في كل شق أو فرجة ضئيلة، يلعن أجنحة لا تمكنه من أنف الجزار، وبطوناً لا تبلغه المحل بأكمله. يحب العبث بطمأنينة الجزار ودَعَة اللحم المشنوق، ولهذا ينتظرني أفتح الباب كي يلج.
خفضت صدري لاستجماع نفَسي. استجمعت دمائي وكلماتي لغرض المصارحة. أريد ألا أخرج من هذا الباب الملوث صفاؤه والجزار ليس بصديق لي. لوحت بكفّي في تيه بينما تدافعت الكلمات على فمي، والجزار يطالعني بعينين صامتتين لم آنس منهما تجاوباً أو اكتراثاً.
- كم مرة قلت لك لا تناقشني في السعر!
قبل أن أبدي رغبتي في الحديث معه بشأن صداقتنا، كان عليّ أن أنفي أني قد ناقشت معه مسبقاً سعر اللحم. لكنني خفت ويبس حشد الحروف في فمي. تناولت كيس اللحم من يد الجزار فهوى كتفي قليلاً ثم نَهضت به وأنا أحظى من الجزار بالنتيجة الأقل ضرراً. صحيح أني نسيت كل مهارتي ولكن ربما في المرة القادمة ستختلف المقادير وتتغير الاحتمالات. بوصولي إلى البيت استقبلني أبي الطيب جداً ووجهه النظيف جداً. تذكرت الفلغة المنقوشة على جبهة الجزار.