Culture Magazine Monday  24/03/2008 G Issue 240
سرد
الأثنين 16 ,ربيع الاول 1429   العدد  240
 
قصة قصيرة
تقاطعات
رحمة الزبيدي

 

 

وُلدتا وبين أصابعهما قلم، عضو آخر من تكوينهما الإنساني، لم تكونا لتعيشان إلا به، يمتد عميقا ً متجذر الأوردة في روحي تلك المرأتين، إن أي محاولات لبتره هي محاولات لسلب الروح منهما، وهكذا ابتدأت الحكاية...

***

في صباح ربيعي من صباحات مكة، كنا وعائلتي نضع قدما ً جديدة، على عتبة شقة أخرى، كما دأبنا دائما ً في التنقل من شقة لشقة.

وكنت واسطة العقد لتلك العائلة. من نسل غاندي وطاغور كانت جذوري، هندية أتشح سمرتي وسواد شعري.

ولدت كما كثير من سكان هذه المعمورة المكرمة؛ فوجدت نفسي أخطو خطواتي الأولى على رقعة هذه الأرض عربية التاريخ والملامح، بينما أحمل على كاهلي وفي جيناتي إرثاً لقوم آخرين.

ورغم كل الأفكار التي كنت أداولها في نفسي من أن هذه الأرض ملك لكل بني الإسلام إلا أن شعوراً بالتشرد توشحني.

وكانت الإشارة: بأنني دخيلة على هذا الوطن؛ كفيلة بإثارة غضبي، أنا التي أشعر أنني أنتمي بكليتي لهذه الأرض وإن لم أحصل على ختم جنسيتها.

أنا التي رضعت ماء زمزم من طفولتي وهدهدتني جبال الحجاز.

ولأننا - كما معظم من لم يحصل على الجنسية السعودية - كنا بدون سكن دائم كان قدرنا التشرد من شقة لأخرى.

وفي كل شقة جديدة كانت تنتظرنا: حكايات، ذكريات، وبضع أشياء مهملة كانت ملكا ً لمن سبقنا في العيش بتلك الشقة..

إن سكان تلك الشقق لا بد أن يتركوا بعضاً من آثار خلفهم: قصاصات أوراق في درج منسي في زاوية، مواعين لم تعد من جملة احتياجاتهم، بضع نقوش طفولية تزين جدران الغرف وفيها قليل من البوح أو كثير من القصص!.

وكان قدري بحكم أنني كبرى إناث عائلتي تتبع تلك الآثار وإزالتها، وهكذا ابتدأت هوايتي الجديدة في العيش مع آخرين، كانت تتنفس أحلامهم جدران شقتنا الجديدة في كل مرة.

شيء من الدهشة واللذة المسروقة أخبأها عن عيون عائلتي، في كل حين أجد فيه أثراً ما (لعابر) ما.

وكنت أدون دهشتي هذه في مذكرة خاصة اشتريتها لهذا الغرض منذ خمسة سنين ماضية.

دونت فيها نكات ومقاطع من ذكريات: كتبها أحدهم على أطراف سريري الخشبي لشقتنا الثالثة في العزيزية الجنوبية ووقعها باسم: المحروم.

قصص منقولة من المجلات وجدتها في دفتر (رياضيات) لفتاة اسمها أمل، تركته في شقتنا السادسة بالشرائع.

كراسة رسم لطفل اسمه يزن، تربعت طاولة المكتب الموجود في شقتنا الرابعة بالكعكية.

وصورة لشاب وسيم تركها عامدا ً وفي هامشها رقم لجواله!

حكايات، حكايات ولكن أعمق حكاياتي كانت لامرأة تكتب نفسها بالقلم، وجدتها ذات دهشة وقد حشرت ذاتها في مذكرة متوسطة الحجم، أودعتها أسفل البساط الأرضي لسريري في شقتنا الخامسة بالعزيزية.

إن الأيام في مقبلاتها والشقق القادمة في قطار تشردي لن تأتي لي بورقات عميقة البوح ومنسية كما وجدت في تلك الورقات !.

كنت في العشرين من عمري عندما تعثرت بمذكراتها، مليئة بالحلم، تحترفني الكتابة، وتتوزعني هموم عدة.

فتاة طموحة لم تسمح الحياة لسفينتي أن ترسو بمرفأ الجامعة، فكان هذا جرحي المتقيح.

وكنت أهرب بعاري من المجتمع ولا أصافح الدنيا، هندية وفقيرة وجاهلة في نظر البشر، رغم أني قرأت معظم كتب العربية والهندية من مكتبة والدي الجامعي.

وعرفتها تلك (الفياضة المشاعر) فتصالحت مع الكون، ومضيت لغاية خلقي وانتسبت لدار التحفيظ القريبة منا.

***

يقولون: (إن الكتابة عملية انتحار يومية بمشنقة اللغة) فهل كانت تلك المرأة تمارس انتحارا ً يوميا ً كهذا ؟

وهل كنت أشبهها أنا بهذا الهوس، فكنت أقتل ذاتي في اليوم ألف مرة بمقصلة الكلمات؛ ولذلك ارتبطت عاطفيا بتلك المرأة ومذكراتها وشعرت أنها تكتبني؟

ربما !

لقد عالجتني من وحدتي، ولم أشعر بها إلا وقد بنت لي بيتا في موطنها - هي السعودية الأصل - ودفأتني فيه من برد غربتي.

مئة وبضع وريقات من القطع المتوسط كانت خزينة، تودع بها تلك المرأة كنوزها، وتضع فيها خلاصة أفكار وتأملات تفتقت عن ذهنها.

تقول في أول صفحة من مذكراتها:

الاسم: حواء تبحث عن هوية !

العمر: 25 خيبة

العنوان: تزوجت ! إذن: كل الطرق تؤدي لحفيظة زوجي، وزوجي لا عنوان له.

وتقول في معرض حديث لها عن الأمومة:

(إن الحب الحقيقي والمفهوم والذي يمكن بالنسبة لي ممارسته، ذاك الذي سيشفيني من أوجاعي كلها هو حبي لأطفالي، إن الدنيا لتتسمر ممتنة لبسمة حلوة من شفاه طفل يرى في الدنيا كلها: لعبة له وحده !).

وتكتب ذات مساء بعد أن كانت ترقب مشادة بين طفلين أحدهما من الأصول الأفغانية والآخر سعودي:

(لقد نظر الأفغاني للسعودي بنظرة متكبرة واستطال بيده عليه، ما فعل السعودي شيئا ً، غير أنه أصر أن يلعب بالأرجوحة، وأن دور الأفغاني قد استطال ويجب أن ينتهي.

شعر الأفغاني بالتهديد فضربه مباشرة وبدأ بدفعه، عندها قال السعودي: (طلع الإقامة يا أفغاني، بقايا حجاج !) واشتدت المشادة بينهما.

إن الصغار هم فسائل تستقي من مطر الوالدين والمجتمع. لو كان المجتمع يُشعر أفراده بأنهم يتفرعون عن تلك الجذور العميقة لأبينا الأعظم آدم؛ لما شهدنا هذه الكوارث المعلنة والمخبأة..

ولو فكرنا أن كل قوم هم سادة في أرضهم لاحترمناهم عندما يأتون لأرضنا.

إن البنغالي المحتقر في أرضنا، والأسود المحتقر في العالم هم أسياد لو ذهبنا لأرضهم ! إذن ماذا لو دالت الدول يا سادة ؟.

معظم الحروب في مبتدئها شعور بالتهديد، يكون الدفاع عنه بالهجوم... كما الأفغاني.

لو تعود الأفغاني على أن الكون من حوله يحترمه؛ لتصرف تصرف الواثق الشجاع وما هجم بنزق الضعفاء المحتقرين... إن لكل ضعيف مهان ثورة فاحذر من ثورة الضعيف).

***

وتكتب ذات أرق:

(لو كان زوجي أعمق قليلا ً أصدق قليلا ً أحن قليلا ً لو كان فقط أقرب للفضيلة لأحببته !)

وتواصل التفكير قائلة:

(أفكل البيوت تبنى على الحب، فأين الرعاية والتذمم ؟!)

آه كم قتلني يا عمر رضي الله عنك... لنا الله يا عمر، لنا الله.

ويلم مرض بوالدها، فيلزمه الفراش ثلاث سنين متتالية، فتصطلي بالوجع هامسة :

أموت أموت وهم تجاه والدي يأرقني، إن أبي هو جناحا الرحمة والحنان الذي يحلق بي لسماوات الراحة والعيش الكريم، إن اقتصاص هذين الجناحين من هيكل حياتي كفيل بسقوطي في أودية المذلة والوجع العظيم.

وكتبت من بعد ثلاثة أشهر:

وكان رمز الجود والكرم، وكان إنسانا ً عندما فرغت الدنيا من الإنسانية.

وكان محبا ً للأطفال وكان سيد اللغة وعاشق العربية، وكان صداحا ً بالأذان تاليا ً للقرآن وكان مالا أستطيع وصفه.... وكان أبي.

كان ثم رحل !

فهل تبكي الحياة بنشيد حبي له صلاة وتخشع ؟.

وكتبت ذات ثورة:

(متى تنصف اللغة أنوثتي ؟

إن مسميات الذكر تشمل الأنثى ف (صديق) قد تقال للمرأة كما يقصد بها الرجل بينما مسميات الأنثى لا تشمل المذكر !

قد أسامح هذا الغبن من اللغة، ولكن هذه الكلمة ماذا أفعل ب(ارتجل) ؟!

وكأن القدرة على الإبداع والخطابة وتفتق الذهن بالكلمات منوطة بالرجل وحده دون المرأة !.

إن اللغة لتبالغ في إهدار حق الأنثى والسود..

فمصيبة سوداء وشعور مرير أسود و.... الخ.

إن القائمة لتطول لكن الحقيقة أنثى، وإنها لتنتصر في النهاية).

وكتبت عدة ملاحظات صغيرة متلاحقة بدون هوية:

(لا تتحدثي عن الأفكار غير المكتملة، إنها تحمل ثقوباً نقضها بكل جدارة).

(لا تضيعي وقتك وقلمك في نقد المجتمع، الانتقاد هو أسهل المهمات الإنسانية، اشتغلي على تغيير نفسك ليتغير العالم بك).

(الحب كالمخدرات إن لم يشفق الله علينا ويسمو بنا لطهارة العفة؛ فإنه يسحقنا تحت الذل ويجردنا من قيمنا الأخلاقية)

(كل المشاعر المؤلمة يمكن تجاوزها بالتقادم بحيث تغدو ظلالاً لا ملمس لها ولا وجع: الحزن، الفراق، والحب.

حتى فقدان أولئك الذين لمسونا حتى نهاية الروح فألفناهم كما أرواحنا وكانوا نصفنا الآخر؟

حتى هم نتجاوزهم ويصبحون رمزا ً لمرحلة ما، كما تتغير روحك التي ألفتها من حالة لأخرى عبر سنين الحياة، ولا يبقى لنا سوى ابتسامات شيخ على صبوات الشباب!.)

***

وفي آخر صفحة من مذكرتها كتبت:

(الساعة الرابعة والنصف سحرا ً، ويد حديدية تعتصر القلب، رؤى وخواطر تطل من نافذة الوجع تبحث عن منفذ، وأنا هنا متوحدة كأقدار المنبوذين على أرصفة الحياة، أحمل كسرة من قلم ورغيف ورقة !.

يغدو الجمر باردا ً عندما يمس أحد لهيب قلبي !.

وأعرف منذ أن تكونت الروح في داخلي أني مستثناة من قاعدة البشرية التي تتقاطع أقدار حياتي بأقدارهم... لا إخوتي، لا زوجي ولا أي مخلوق في دائرة معرفتي يمكن أن يفهم هذا الاحتراق اليومي على أتون الورق.

إن محاولاتي المستمرة لاختزال الحياة بين شوارع وأرصفة اللغة، هي محاولة سقيمة مقلوبة المعادلة، في نظر من يضعون مجهرا ً كبيرا ً على تفاصيل حياتي.

رغم أنني لا أفهم: ما الفرق بين هواية لعب الكرة، التسكع في شوارع حارات المدينة (هواية زوجي الليلية)، إهدار الوقت في دردشة كتابية على (ماسنجر)، التفنن في وضع (ميك أب) أمام مرآة، وبين هواية القراءة والكتابة التي أحترفها أنا... إلا فرق التسطيح بين هواياتي وهواياتهم، إن هواياتهم لسطحية بنظري، كما هي هوايتي مريرة ومتعنتة ولا تشكل متعة برأيهم.

إنهم لا يحترمون ذلك (الشعور العملاق) بين أصابعي، لا يسمعون صدى الخواطر المتردد بين جبال الوجدان، والذي يتحول بفعل ذلك (العملاق) لأحاديث وأصوات حقيقية وكلمات، ذاك العملاق الذي أقسم به ربي وكرم.

إنني لأعرف ترجمة لكل مكنونات الفؤاد منهم، إن ما يحدث حقا ً لهو معجزة: إنني أكتبهم).

...........

وتمضي أحاديث النفس منها على هذه الوتيرة وأنا خاشعة أقرأ !.

يا رب المعجزات أي سماء تلتحف هذه الإنسانة التي قرأت ؟! وهل من سبيل للوصول ؟

وأفكر فأحمل دفتر مذكراتها واضحا ً في يدي وأمضي به في كل طريق لي وأجلس به في كل حديقة أتنزه بها وانتظر.

وفي كل مرة ألمح عينا ً تنظر لتلك المذكرة أرفعها عاليا ًأمامها وأنتظر ردة فعل.

وتركت في كل شقة مررنا بها جملة معلقة من بعض جملها، وأدرجت تحتها رقم جوالي بالحروف الأبجدية ! كنت أعرف أن أحداً يفتقد للعمق والثقافة لن يفهم كيف يحل السر ويفك شفرة جوالي.

وتمر السنون ويثقب الانتظار جيب صبري فأيأس.

***

مرت سنين خمس من العمر.... فوقفت على أول شارع السنة الخامسة والعشرين، وجلست أراقب آخره وقد استدار، فتساءلت: أموت ينتظرني في آخر شارع هذه السنة، خلف منعطفها للسنة القادمة ؟!

لوهلة - في تلك الليلة من عامي الجديد - تمنيت ذلك، وشعرت أنني زاهدة في كل ما ستأتي به الحياة في مقبلات أيامها، ثم توسدت النوم وهمست: ربي أحيني مادامت الحياة خيرا لي، وأمتني إن كان الموت خيرا لي. ربي إن بي ضجراً.. وقلت حيلتي، ربي إني متوحدة إلا من سواك، وفي قلبي حاجة لإنسان يفهم مكنونات الفؤاد مني، ربي فجد علي، ربي جد علي.... وذهبت أفكاري لتلك المرأة المستحيلة.

وعندما التحفت أحلامي رأيت نجمة تطارد نجمة، وبستاناً أخضر على مدى البسيطة، وقرآناً في يد طفلة تحت شجرة سدرة، تمد يدها وتقول لي: تعالي يا أستاذة سهيلة استمعي لي.

فاقتربت منها وجلست وعندما نظرت لها: وجدتها إحدى طالباتي في التحفيظ واسمها هاجر فقلت: هيا هاجر.

فتبدأ في تلاوة سورة لا أذكرها وعندما تنتهي تعطيني ورقة التقويم التي أرسلتها معها ليوقعها ولي أمرها، فأجد بها خطاً أليفاً، لعبارات شكر أليفة!

فأسألها بدهشة صبورة: من وقع لك الورقة يا هاجر.

تقول لي: إنها أمي.

وأستيقظ من نومي في دهشة ملهوفة، بي فرح الدنيا.

ولا أصبر حتى العصر لأرى هاجر وخط أمها.

فأهدئ دواخلي بالقول لنفسي: إنه حلم يا حبيبة إنه حلم.

وتحملني طيور فرحة مكبوحة للتحفيظ، وأجمع صغيراتي عجلة، وأبحث بعيوني عن هاجر فلا أجدها.

ويمضي الوقت ولا تأتي ثم تمضي الأيام ولا تأتي فأسأل عنها فتخبرني المديرة بصوت متأثر: لقد ماتت أمها، لكن وعدوا بإرسال هاجر غدا ً، إن أمها لامرأة رائعة، مثقفة وتكتب ببراعة!

وهل يدري سواي كم هي رائعة ؟

هل يعلم أحد عن أسرار لها، أكثر مما علمت أنا ؟

هل أحبها أحد واحترف الحلم والكتابة مثلها كمثلي أنا ؟

لماذا تأتي العطايا في وقت متأخر ؟ ولماذا تتقاطع أقدارنا مع من لا يعني لنا شيء، ولا تتقاطع مع من يعني لنا كل شيء ؟!

إن الحكمة لتعجزني، وبكيت.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة