الغيرة من الآخر..
البعد والحرمان..
(الذّئبَنَة) في الطبع الرجالي..
النظرة الأنثوية الحالمة لرجل..
الواقعية.. والتحدي..
كل هذه الومضات - النقدية الانطباعية الأولية - تداعت إلى ذهني وأنا أعيد قراءة النص الإبداعي الجميل (صهيله يأسرني) المنتمي إلى فن القصة القصيرة المنشور في ملحق الثقافية الاثنين 9-11-1428هـ.
النص يأخذك إلى ردهات الشباب المراهق الحالم والناعم، يأخذك إلى حيث الهوى والأحلام الوردية. يأخذك إلى اللهفة والحنين والشوق وكل مفردات العشق المسالم البريء.. أنثى.. تتحرك فيها رغبة الامتلاك التي طبعت عليها عبر تقاليد الأمهات وتجاربهن المخيفة.. يعجبها فتى فيهيم قلبها به ويملأ سمعها وبصرها وتفكيرها ليكون كل شيء في حياتها:
حديثه.. حلاوة السكر..
كلماته.. عذوبة النهر..
صوته.. هدوء النسيم!!
يا اااالله.. ما هذه الأحاسيس الجميلة التي تسامت إليها هذه الأنثى تجاه هذا الفتى حتى تحولت إلى معاني سامقة، ولغة فارهة.. الصباح موعد التجلي والرؤية عن بعد.. الرؤية التي تحولها إلى كائن آخر سماوي التطلع، روحاني المحبة، الرؤية - النظرة التي تملؤها دفئاً وحناناً وتصيرها فراشة متوهجة حالمة.
لكن هذه المشاعر تنكسر وتتشظى تحت تجربة الأمهات مع جيل من الرجال تحول في خيالهن إلى ذئاب بشرية - متوحشة، لا تفكر إلا في كمية اللحم الذي سيفترسون. صور مفزعة تطرحها الأم على مسامع الفتاة الحالمة تخيفها من الرجال تصور فتاها بأسوأ الحيوانية بينما هو في خيالها (جواد عربي جامح صهيله آسر)!! بقدر تلك المحاولات التي يفرضها الكبار وتجاربهم، تبقى القناعات القليلة متوارية لا تغيرها لغة التخويف والمبالغة.. يظل القلب المتعلق متعلقاً ويظل الحبيب هو هو حتى لو صورته الأم (بالذئبنة) فهو المؤمل والمطلوب لأنه الجواد الأصيل!!
غاب الفتى - الحبيب دون وداع.. ابتلعته المدن الاسمنتية، خافت الفتاة على جوادها الأصيل أن يقتحم عالمه فتاة أخرى فتشعر بغصة ألم حارقة، وتشرق في عينيها دمعة حرى!! الغيرة وليس سواها.
هذا ما تفضي به القصة الموسومة ب(صهيله يأسرني) نقدياً، وذلك على المستوى الظاهري للنص لكنه ايضا يحمل دلالات كامنة تتحرك فيما بين السطور وعبر اللغة الموحية ورمزيتها المتوقعة. ويمكن رصد تلك الدلالات الكامنة من خلال الثنائيات المبثوثة في النص:
الأم - البنت
الرجال - النساء
الذئب - الجواد
العواء - الصهّيل
الصباح - المساء
القرية - المدينة
ومن هنا نستهلم - نقدياً - أن هذه الثنائيات تشير إلى ما يسمى الحضور - الغياب الظاهر - الباطن، الجلي - الخفي، السري - المعلن. وهذا يعني لنا أن النص يتحرك عبر مستويين ظاهري وباطني. فالظاهري ما ألمحت إليه القراءة آنفاً. أما الباطني فهو رسالة مشفرة سرية تقودنا إلى أننا أمام جيلين متناقضين كل جيل له قناعاته.. الجيل القديم (الأم) الذي تعرض قناعاته السلبية التي توقف حركة التقدم والحياة. وجيل المعاصرة - الجديد (البنت) الذي يتوق للحرية والتجديد وفق قناعاته وخبراته.
رسالة تقول: دعونا نتوجه الى الأمام ولا يسحبنا الخلف الى الخلف! فهل هذا ما تريد قوله كاتبة القصة (هيفاء محمد الفريح..؟! أنا كقارئ - ناقد لا يهمني رأي الكاتب والمؤلف، فالنص هو الذي يجيب وهو الذي يطرح نفسه دون قصدية المؤلف - الكاتب!!
على أية حال، فلا نص إبداعيا مورقا يتجلى لغة وفكرة وأسلوبا، والنص معبر وشفاف وله حمولاته ودلالاته الغنية بالقراءة والتأويل، وما هذه القراءة إلا واحدة مما يمكن قوله.
تحية إلى صاحبة هذا النص الجميل، وإلى كل المبدعات والمبدعين الذين يمطرون أيامنا بالنص الأروع والجمال الآخاذ.