كعادتها، تطل على قرائها بحلتها القشيبة، وقد تألقت إبداعاً وجمالاً، وإعداداً وإخراجاً، ناثرة بين متون صفحاتها ألواناً زاهية من الأدب الإنساني الرفيع، وأقلاماً تحكي إبداع الحروف وروعة المعاني والمباني.
أجل! تطل (المجلة الثقافية) لصحيفة الجزيرة على قرائها صباح كل يوم اثنين، لتحلق بهم في أجواء مفعمة بكل ما يثري الروح والعقل، ويسمو بالذوق والفكر، ويجدِّد في النفس المتعة والجمال، تستجم به من وعثاء حراكها اليومي، بصخبه وضجيجه.
أجل! إنها استراحة وراحة، مزدانة بنفائس الكلم، وروعة البيان، تقدمه الجزيرة لعموم قرائها، في إطار رسالتها الإعلامية المتميزة على كافة الصُعد.
ورغم أنَّ (التميز) قد استقرت قواعده في مجلتنا الثقافية منذ أن ظهر أول عددٍ لها منذ نحو ست سنوات، إلا إنَّه كان أكثر إشراقاً، وأنصع بياضاً في عددها الخاص عن الرمز والمدرسة: الأديب والسياسي والإعلامي اللبناني الكبير الأستاذ: غسان تويني تحت عنوان (إنَّه غسان).
أجل! إنَّه غسان تويني، بل إنَّه جبل لبنان وأرْزه، بقوته وعزيمته وكبريائه، ونقاء سهوله ووديانه، وسيرة حياته وكفاحه، وحركاته وسكناته، إنَّه قصة حب وعشق وصدق انتماء، ورحلة عمرٍ مثقلة بأقدار الحياة وجَهْدِ العمل، من أجل أن يظل لبنان واحة للمحبة والسلام والوئام، وأن يظلَّ يعربياً وارف الظلال في مقدمة الركب، يتقاسم مع أمته هواجس الحاضر وآلامه، وتطلعات المستقبل وآماله.
من أجل هذا الهدف الوطني والعربي النبيل عاش (غسان تويني) قلماً وفكراً على وقع التشرذم الطائفي، والتجاذب السياسي، والتدخلات الإقليمية والدولية، وعلى وقع أحداث عاصفة بالمتغيرات والمستجدات، بل عاش كذلك على وقع الحرب الأهلية، والاغتيالات العشوائية والسياسية، ولم يزده اغتيال قرة عينه (جبران) إلا عزماً وإرادة صلبة على الاستمرار في أداء رسالته النبيلة، رافضاً أن ينساق إلى أجواء الكراهية والأحقاد، وتصفية الحسابات، فقال لمحبيه في يوم تشييع لبنه بحكمة الكبار وكبرياء الرجال، وفي قمة التوجع والمعاناة: (لا أدعو اليوم إلى انتقام، ولا إلى حقد، ولا إلى دم، أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها، والكلام الخلافي كله، وأدعو اللبنانيين جميعاً مسيحيين ومسلمين لأن يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم، وفي خدمة قضيته العربية).
فمن مثل غسان كما قال الأستاذ خالد المالك يفجع بابنه الوحيد فيتعالى ويتسامى في يوم كانت تجلِّله الأحزان والدموع والآهات.
ومن مثل غسان في صبره كما قال الأمير الحسن بن طلال (في صبر هذا الشيخ من شيوخ الحكمة ما يُعجِز، لكنَّه الإعجاز الذي لا تأخذنا فيه حيرة، ما استشففنا نقاء الإخلاص في نسغه وصفاء المنبع في تكوينه).
إنَّه قدر غسان ولبنان أن يمتطيا صهوة الحق والعدل والحرية والمساواة، والنضال ضد الفئوية والجهوية والطائفية والمذهبية.
هكذا كان وما يزال غسان، لم ولن يتغير، وسيبقى الأقوى والأشد رغم كل الانكسارات، فنحن كما قال الدكتور إبراهيم التركي سنظل (نقرؤه برؤيته ورويتّه، بمبدئيته ومنطقيته، بوثباته وثباته، ونعرف من كلماته أنَّه ما وهن ولا سكن وما رهن وما ارتهن وأنَّه العميد).
ولقد اكتسب هذا العدد الاستثنائي من مجلة (الجزيرة الثقافية) بجزأيه الأول والثاني زخماً من التميز والتنوع، بقدر تميز وتنوع شخصية الأستاذ غسان، فقد بذل القائمون على إعداده جهوداً جبَّارة، وأعمالاً مضنية، في سبيل أن يخرج هذا العدد بما يليق بمكانة الأستاذ ومقامه، وبما يغطي جوانب عدة من شخصيته الثرية بالمواقف والأحداث والآلام والأحزان، قد لا يعرفها الكثير من القراء أو المهتمين.
إنَّ جمع هذا الحشد النخبوي من كتَّاب المجتمع ومفكريه وساسته، عمل غير عادي، وجهد استثنائي، يعكس إرادة صُلبة، وعزيمة فذة، ورغبة مفعمة في تبني العمل الصحفي الخلاق الملتزم بنقاء الكلمة، وصدق الخاطرة، ونبض الأمة، الحامل لقيم الوفاء والتقدير للرواد والمبدعين.
إنها رسالة وفاء، في زمن الجحود والنكران، ورسالة حبٍ في زمن الكراهية والأحقاد، ورسالة صدقٍ في زمن المصالح والأهواء، تزفُّها المجلة الثقافية إلى مستحقها، وإلى محبيه، وقرائه، وإلى مشعل الحرية والعدل والمساواة الذي يحمل رايته هذا الشامخ بشموخ جبل لبنان، وخلود أرزه، ونقاء سهوله ووديانه. فتحية ل(غسان) في يوم الاحتفاء به! وتحية له في شمس نهاره وأصيله!
وتحية ل(الجزيرة) الثقافية في يوم إنجازها، ولمسة وفائها، وصدق كلمتها، وإخلاص عامليها.