حوار: سعيد الدحية الزهراني- علي محسن مجرشي- تصوير: التهامي عبد الرحيم
الجزء الثاني
استعرضنا معكم في العدد الماضي الجزء الاول من هذا الحوار مع رمزنا الدكتور عبدالله الغذامي حول ثقافة القبيلة والمجتمع والمزايين ... في هذا العدد نستكمل معكم الجزء الثاني والاخير .. حيث تطرق إلى العديد من المواضيع في الأدب والثقافة والمجتمع.
* الصوت الأعلى دائماً يا دكتور هل هو للخطاب أم للخطاب المضاد؟
- لا للخطاب المضاد دائماً.. الخطاب المضاد يكون في طبعه خطاباً عنيفاً، وبالتالي يكون عالياً، هذا شأن الخطابات المضادة عادة، تسمعها عالية، فلو كنت في قاعة في فصل فيه أربعون طالباً كلهم في حالة هدوء كامل وأدب وانتظام ما عدا طالباً واحداً منهم ابتدأ يصرخ، فكأن الفصل كله يصرخ مع أنه واحد؛ فعلو الصوت والضجيج لا يعني الكثرة، بل يعني فقط علو الصوت. كيف نحيد من علو الصوت هذا؟ لا نحيده بالقمع ولا بالمنع.. القمع والمنع لا يحيدان، والقمع والمنع لا يطوران الخطاب؛ الذي يطور الخطاب هو النقد المتواصل، وهو الخطاب النقدي، هو إشهار الرأي وإشهار المواقف، وشجاعة الموقف، وشجاعة النقد، وشجاعة النظر، وشجاعة الرؤية.. مع الزمن ممكن أن تحل الإشكالات، لا توجد مشكلة تحل في يوم أو يومين، المشاكل تأخذ بُعداً زمنياً عميقاً جداً؛ فلذلك تحتاج في حلها إلى بُعد زماني عميق مضاعف له أيضا، فكلما سمحنا لمجتمعنا بأن يتكلم بشجاعة وبصدق وبأمانة وبحرية فنحن نسهم في الحوار حول قضايا المجتمع وعيوبه، أما إذا دخلنا في سؤال المنع، فالمنع لا يفضي إلا إلى القمع، والقمع لا يفضي إلا إلى ثقافة تحت الأرض، والاشتغال في الظلام؛ هو ما يضرنا ضرراً كبيراً، ونحن نريد من كل التكوينات الاجتماعية أن تشتغل في النور وليس في الظلام.
* إذن هو مشروع نقد يا دكتور..
- نعم، هو مشروع نقد، والنقد يحتاج إلى أن يكون الناقد فيه عادلاً ومنصفاً، وإذا لم يكن الناقد عادلاً ومنصفاً فسيكون مثل الطبيب المنحاز إدوارد سعيد عندما كان يعالج في أمريكا في مستشفى في نيويورك والطبيب الذي يعالجه يهودي لم يتكلم بما كان يقول بمعادلة اليهودي والفلسطيني وإلا كان سيُقتل إدوارد، وإدوارد لم يضع ثنائية فلسطيني ويهودي، بل كان يضع ثنائية طبيب ومريض، وهذه الثنائية ألغت قضية يهودي وفلسطيني. نحن كذلك، في حالة النقد يجب أن أنسى مثلاً أنني أنتمي إلى أي قبيلة أو أنتمي إلى أي مدينة أو أنتمي إلى أي عائلة، إذا وضعت قبيلتي أو مدينتي أو عائلتي في الاعتبار فسيسقط دوري كما قد تسقط موضوعيتي وتسقط مصداقيتي إذا جعلت الطرف الآخر خاضعاً لي حيث إنني أمنع وأسمح وأضع قوانين، حينئذ لا أكون ناقداً وسأكون حاكماً أدير وأوجه، ولكن دوري نقدي، دوري في تنشئة وعي معرفي وثقافي.
* تحدثت قبل قليل عن المواقع، وقلت إن هناك مَن أنشأ موقعاً إلكترونياً وأسماه قبيلة الشعر.. أحد تلك المواقع نشر إحصائية بأن أكثر من 65% من مجلس الشورى السعودي ينتمون إلى قبيلة معينة.. من هنا كيف ترى اتجاه الإفادة من مثل هذه المواقع؟.. بالتأكيد في الاتجاه السالب؟..
- طبعاً لا، لو تمعنا في خطاب الإنترنت لوجدنا أنه أولاً خطاب مفتوح؛ لأنه خطاب ينزع كل شروط الرقابة، ليس الرقابة الرسمية والمجتمعية والمؤسساتية والدينية فحسب، وإنما ينزع الرقابة الذاتية، رقابة الفرد على ذاته، بمعنى أنه يستعمل اسماً مستعاراً، فمعنى ذلك أنه يتحرر حتى من اسمه، فيقول كل شيء لا يمكن أن يقوله تحت اسمه الصريح؛ لذلك يجب أن نأخذ هذا بالاعتبار، ونأخذ طبيعة وشروط الخطاب، فلا نأخذ خطاب الإنترنت مثلما نأخذ خطاب الكتابة ولا مثل خطاب المقال في جريدة ولا مثل الخطاب في خطبة الجمعة ولا مثل الخطاب في التصريح السياسي نحن أمام خطاب مختلف يقال فيه ما لا يقال، يقال فيه إن الرجل حين يقول هذا الكلام لا يعني ما يقول. في هذا الكلام نوع أشبه ما يكون بالهذيان.
* هل هذا تبسيط؟
- لا.. لا.. لا.. ليس تبسيطاً بل تعقيد هذه مرحلة بشرية في الخطاب البشري مختلفة ومعقدة جداً. أنا أدعو إلى أن ننظر إليها كظاهرة لها شروطها لها كينونتها لها أوضاعها مثلما ما تكون ثرثرة الإنسان عندما يكون واقعاً تحت تأثير البنج قبل العملية أو بعد العملية مثل ثرثرة الإنسان في الأحلام. هذا خطاب ثرثرة، هذا إنه لا قيمة له بل بالعكس له قيمة يفصح عن أسرار يفصح عن قلوب يفصح عن شيء يجب أن يقال ولم يقل، يجب ألا نأخذه مثلما نأخذ الكتاب أو المقال كأن نأخذه كاقتباس ونريد أن نناقش هذا الاقتباس، الأمر أعقد من هذا بكثير أمام الإنترنت يجب أن تنظر إلى ظاهرة في الخطاب البشري إلى كل حيثياتها، وحيثياتها كبيرة جداً، إذا أردنا أن نخرج من الخطاب الثقافي إلى خطاب الإنترنت يجب أن نعرف أنه خطاب مختلف في شروطه له ظروفه له واقعه لا تأخذ خطاباً واحداً فقط خذ كلام الناس كلهم خذ كلام الناس الذين ردوا عليه لماذا تأخذ هذا الخطاب ولا تأخذ الردود عليه وإذا لم تجد ردوداً عليه يجب أن تسأل نفسك لماذا لم تكن هناك ردود عليه؟
هل لأنه لا شأن له؟ هل لأنه غير مؤثر؟ هل لأنه غير حقيقي؟ هل لأنه كذب؟ هل لأنه مجرد دعاية أو مجرد إشاعة؟ لديك مجموعة ألاعيب لا بد أن نعيها مثل أن تنظر إلى ملعب كرة قدم لا تستطيع أن تركز على المهاجم وتنسى المدافعين وخط الوسط وتنسى الحارس وتنسى المدرب وتنسى الحكم وتنسى الإداري. هي مجموعة أشياء بعضها مع بعض كثير من الناس في الجرائد وغيرها عندما يتعاملون مع خطاب الإنترنت يتعاملون مثلما كأنهم أخذوا المهاجم من بين اثنين وعشرين لاعباً فلابد أن ترى الفريق المدافع أيضاً، فلا تستطيع أن تنظر إلى المهاجم دون أن ننظر إلى الفريق نفسه والفريق المقابل والحكم والإدارة والمدرب والجمهور والصحافة الرياضية كلها مجتمعة في الخطاب كله والإنترنت يجب أن ينظر إليها هكذا ينظر إليها على أنها كتلة كبيرة جداً نشأت بحرية مطلقة وتتحرك بحرية مطلقة حتى أنها تحررت من جنسها تجد أن الرجل يكتب بصيغة أنثى والأنثى تكتب بصيغة رجل تخلصوا من كل التلبيسات الاجتماعية حتى الفردية منها هنا يجب أن نعرف هل نحن نتعامل مع جمل تقريرية تمثل رأياً وموقفاً أم نتعامل مع ثرثرة لها شروط وأنا لا أقول إنه ليس لها قيمة بل لها قيمة كبيرة وألف قيمة وقيمتها أكثر من الخطاب الجهتي لكن لا بد أن نعرف أن لها شروطها الخاصة ولها أوضاعها الخاصة لذلك أنا في كتاباتي الخاصة امتنعت كثيراً عن الدخول في موضوع الإنترنت فأنا إذا دخلت إليه أحتاج إلى كتاب خاص بهذه المسألة أصلاً لا أخلطه بشيء آخر لا أخلطه بالنصوص الشعرية القديمة والحديثة لا أخلطه بالكتابات ولا بقراءة المواقف ولا بظاهرة تطليق رجل لامرأته في المحكمة الشرعية. هذه خطابات لها شأن وخطاب الإنترنت له شأن آخر.
أرى وأعتقد وأدعو أي باحث أن يعمل على خطاب الإنترنت كاملاً من ألفه إلى يائه ويشتغل على الظاهرة ويعطيها حقها كاملاً لكن دون أن يخلط بين أجزاء منها وبين أي خطاب مؤسساتي.
* من هنا د. عبدالله.. ذكرت في أحد مقالاتك بالزميلة الرياض أنك تشعر بسعادة كبيرة وأنت ترى الظاهرة تتخلق أمامك من خلال تفاعل القراء مع ما يتيح نشره موقع الجريدة الإلكتروني.. إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه الآراء رافداً أو مصدراً وإلى أي مدى يمكن أن تكون مرجعية في الطروحات الفكرية؟
- في الدرجة الأولى يجب أن تبدأ من احترام القراء فأنت تتعامل مع قراء بالدرجة الأولى فاحترمهم. يجب أن تبدأ بقراءة آرائهم فأنا يوم الجمعة والسبت أدخل على الموقع كي أرى تعليقات القراء والقارئات ليست كلها إيجابية بعضها سلبي بعضها شتائم بعضها جارح وكلها لابد أن أنظر إليها لأنها تعطيك عينة وإن كانت عينة ليست واسعة وإنما تعطيك عينة عن موقعك أنت بين الناس تشبه حالة المتحدث، الإنسان عندما يتحدث عادة مع الناس ينظر في وجوههم يستمد طاقة من لغة الوجه لغة الجسم الذي أمامه لكن إذا تكلم وهو مغمض عينيه..، حتى المدرس وأنا من خلال عملي ثلاثين عاماً في التدريس بالجامعة نظرات الطلاب لي وأنا ألقي المحاضرة تعطيني وقوداً أو تفقدني هذا الوقود، فبالتالي هذا تفاعل نفساني وجداني يساعد المتحدث وهذه التعليقات هي هذا النوع من الصلة الوجدانية التي تعطيني الوقود.
المقال الذي أكتبه ويكون عليه ثلاثة أو أربعة تعليقات يختلف إحساسي به عن مقال صار عليه ثلاثون أو أربعون تعليقاً، فهذا الأخير لامس نقطة أكثر إثارة للانتباه عن الأول وهذا ترمومتر يبين لك المواضيع والأشياء الأكثر أهمية وحساسية أعلى ولذلك تزيد المقالات في هذه المواضيع وتعالجها بشكل يزيدها إيضاحاً إذا كانت تحتاج إلى إيضاح يعمقها إذا كانت تحتاج إلى تعميق تزيد لها أجزاء أخرى لم تطرق من قبل فهذه مدد وجداني.
* لكنها ليست مراجعة للمشروع؟
- مستحيل لأنك تكون أنجزت شغلك.. مثلاً بحثي في القبيلة والمجتمع استغرق أكثر من خمس سنوات كمادة أجمعها وأرتبها وأضع أسسها وأضع الأفكار الأساسية لكن وهي في طور الإنجاز هناك مقالات أقوم بعملية التحوير والتعديل. وإعادة الصياغة باستمرار لكن أكثرها مكتوب منذ أكثر من سنتين وأحياناً يدخل مقال وسط مقالات للضرورة.
يدخل أحياناً إعادة صياغة كبعض المقالات بناءً على رد الفعل على الأسئلة على المقترحات على التوصيات التي تأتي.. والهدف أنني أريد أن يكون مشروع هذا الكتاب قد شارك في كتابته المجتمع ككل.
* وهذا ما عنيته من قولك (تخلق الظاهرة)؟
- طبعاً فهذا يفيد في جعل الموضوع أكثر موضوعية وأكثر مقبولية وأكثر مقروئية.
* الغذامي في جل طروحاته ينطلق من النظرية.. في هذا البحث (المجتمع والقبيلة) نرى أن الغذامي يتجه إلى إيجاد النظرية.. ما تعليقك؟
- أعتقد دائماً أن النظرية مع المنهج هما عنصران أساسيان لأي بحث سواء البحث العلمي الأكاديمي أو البحث الثقافي العام، وهذه المقالات حاولت أن أجعلها تصاغ بصياغة المقال الصحفي وقابل للمقروئية على مستوى جمهور الصحافة، وهذا أجدى لمقالات بهذا الشأن لأنها تلامس ظاهرة اجتماعية وتحاول أن تتحدث مع الناس بلغة الناس، أن تتداخل مع الناس بنفس الطريقة التي يحسون أنها قريبة إليهم ليس فيها تعقيد وليس فيها غرابة، لكن المقالات مبنية على مفهوم النسق الثقافي ومبدأ النقد الثقافي فهي مقالات في قراءة النسق وفي صيغة النسق ولذلك فهي منضبطة من هذه الناصية المنهجية وترى ترداد كلمة النسق دائماً، أحد المعلقين قال: لو نزعنا كلمة نسق من كتابات الغذامي لما بقي شيء، وأنا أقول له جرب نزع كلمة النسق (إذا بقي شيء فالحمد لله ما بقى شيء انتهينا).
مشكلة التوتر لدى البعض أمام كلمة النسق يأتي من أنها تزعج أعمق ما في أعماق النفس والناس لا يريدون ما يزعجهم ما يزعج راحتهم وسكونهم- لذلك تزعجهم كلمة - النسق توقظهم. مثل الإنسان في سن المراهقة تكون ساعات النوم عنده كثيرة ويجب أن ينام كثيراً فإذا أردت أن توقظه لصلاة الفجر أو للذهاب للمدرسة انزعج.. الحديث عن النسق يشبه هذه العملية إيقاظ المراهق ليؤدي عملاً وهو لا يريد ذلك.. فتزعجه الساعة المنبهة ولذا يريد أن يكسرها وكثيراً ما كسرها المراهقون.
فالحديث عن النسق وبعض الناس لا يريد كلمة النسق ويقول كثرت (ودوختنا فيها) لأنه لا يريد لحظة الإيقاظ هذه والواقع هو لا يكره كلمة ولكن يكره هذا النقد اللاذع للذات والثقافة.
* النسق المضمر أو القبحيات- هذا المصطلح الذي يرد كثيراً في طروحات الغذامي- لماذا غاب عندما تناول الغذامي مهرجانات المزايين؟ بمعنى: ألا يرى الغذامي أن هذه المهرجانات مليئة بالقبحيات أو أمراض النسق؟
- في كلامي عن مزايين الإبل تحدثت في التميز بين الظاهرة الثقافية كظاهرة ثقافية ثم الخطاب المصاحب إذا جنح للعنصرية، النسق يكون في الخطاب العنصري وليس في المهرجان بذاته.. المهرجان بذاته قيمة جمالية لكن الخطاب العنصري هو القبحيات هو الخطاب المضمر. لذلك لا أحكي عن القيمة الجمالية لأنها جمالية ومن حقها أن تكون جمالية. ولا يمكن وصف الجمالي بأنه قبيح لأنه جمالي لكن إذا جنح الجمالي إلى العنصرية كان قبيحاً.
* تحدثت عن المجتمع القبلي ونحن نعرف أن المجتمع القبلي في الحجاز يختلف عن المجتمع القبلي في غيره، لماذا لم يشر الدكتور الغذامي إلى هذا الاختلاف؟
- أشرت في مقال عن القبيلة والمدينة والقبيلة المدينة يعني قبائل الحجاز عندما تقول الباحة أو تقول بلجرشي أو تقول النماص أو تقول أبها المدينة كل هذا القبيلة يعني الباحة، أما غامد أو زهران الاثنين (مافي غيرهم) الباقي عناصر طرأت عليهم.
في مدن نجد لا المدينة مختلطة جزء منها ينتمي لفئات وعائلات لها أصول قبائلية لكن ليس قبيلة واحدة بل مجموعة قبائل. لا يوجد قبيلة واحدة تهيمن على مدينة واحدة اللهم إلا مدينة شقراء لبني زيد لكن باقي المدن تجد هذه الأخلاط مجموعة كبيرة لا تنتمي إلى قبائل في المدينة النجدية تجد أكثر من نصفها أكثر من خمسين بالمئة بعض المدن تجد ستين بالمئة ليسوا من دواعي الانتماء القبائلي على الإطلاق والأربعون بالمئة الآخرون هم انتماءات لمجاميع من القبائل وليس لقبيلة واحدة، لا يوجد هيمنة لقبيلة واحدة ولذلك في هذه المدن عادة يضيع سؤال القبيلة ويصبح الانتماء للمدينة وليس للقبيلة. أهل الدرعية لا ينتمون إلى القبائل المكونة لعائلات الدرعية ينتمون لمدينة الدرعية، أهل حائل أهل عنيزة مثلاً تجد رايتهم للمدينة وليس للقبيلة الراية للمدينة وتحت هذه الراية يأتي من ينتمي إلى قبيلة من أي نوع ومن لا ينتمي ولذلك في زمن الحروب قبل توحيد المملكة تجد أن أفراداً من هذه المدينة تحت لواء هذه المدينة يقاتلون قبيلتهم من مدينة أخرى لأن لواءهم المدينة وليس القبيلة، ولذلك أقول لدينا ثلاثة تكوينات: تكوين مدني بحت في مكة والمدينة في جدة، وتكوين مدني مختلط منظومة قبائل، وتكوين مدينة تكون كلها قبيلة واحدة.
قبائل الحجاز يغلب عليها استقرارها في مكانها الأول منذ الجاهلية، ابن خلدون تكلم عن هذيل أن هذا موقعها منذ الجاهلية هذيل في هذا المكان منذ قرون عديدة زهران غامد عسير، وهكذا لكن قبائل نجد تجدها متنقلة متحركة مترحلة تمشي إلى الشام إلى سوريا إلى الأردن إلى تركيا شمالاً لكن تجد مدن نجد مستقرة بالأخلاط البشرية وبعضها أجناس غير عربية أجناس تركية أجناس فارسية أجناس أفغانية تعيش وتستقر.
أنا أشرت إلى هذا في واحد من مقالاتي لكن القضية ليست هنا لأن هذا تكوين طبيعي وحيادي القضية أخطر من هذا بكثير، الإشكال في النسق بغض النظر عن أنك مستقر أو غير مستقر مترحل أو غير مترحل نشاطك رعوي أو زراعي أو تجاري، إذا أحسست بالتفاضل العرقي هذا هو الخطر والمصيبة وإذا لم تشعر به فأنت إنسان طبيعي مهما كان موقعك ومهما كان وضعك.
* في هذه التقسيمات يا دكتور هل يبرز التفاضل العرقي في المجتمع القبلي أو المجتمع المدني؟ أو المختلط؟
- للأسف يظهر في الجميع، فالمجتمع غير القبلي صار يميز نفسه عبر عائلات أو عبر جهود ضد المجتمع القبلي مثلما مكة من قبل، كلما حدث انحياز في موقع قابله انحياز في الجهة الأخرى بالضرورة لأنه لا يمكن لفئة ترى نفسها أفضل من غيرها ثم تسلم لها الفئات الأخرى مستحيل.
أنت أشرت إلى الإنترنت ارجع إليه مرة أخرى إذا رأيت عنصريات قبلية فانظر الخطاب المضاد لها وماذا يقول تجده يتكلم بشراسة وأحياناً بقبح وأحياناً بلؤم شديد، دائماً إذا وجد من يدعي إلا يواجه بادعاء مضاد وما من ظالم إلا يواجه بظالم أقوى منه، لهذا السبب نحن نقول يجب أن نقف على هذه الانحيازات لأنها ستضر بنفسها. كلما كنت منحازاً ستجعل الآخرين ينحازون ضدك وبالتالي الضرر يقع عليك. إذا جلست مع مجموعة وتعاملت معهم بسواسية وتساوٍ تام تظل أنت جزءاً من هذه الوحدة وهذه الكينونة، محبوباً منهم وأنت تحبهم وتكون طبيعياً معهم، لكن إذا بدأت تفضل نفسك عليهم فسيطردونك، إن لم يطردوكم حسياً سيطردونك وجدانياً ويجعلونك مستهدفاً في كلامهم وتعليقاتهم، فبالتالي عبر انحيازاتك أنت تضر نفسك ولكي لا يضر الإنسان نفسه بانحيازاته لا بد أن ينبه إلى أن الانحيازات مرض والمريض الذي يعترف بمرضه يقف المرض عند حد إما أن يشفى أو أن يتعامل معه ويوقفه.
* أحيانا المرض النسقي قد لا يدرك؟!
- هنا يأتي دور الناقد الواعي الذي يجب أن يؤدي دوره التاريخي والمعرفي يجب أن يتحرك لأن النسق الذي يدرك لا يصبح خطيراً الخطير هو النسق المضمر الذي لا يدرك مثل المرض الذي لا يعرف المريض أنه مصاب به فيقتله لكن إذا عرفه لا يقتله لهذا نحن ننبه الناس إلى الأنساق المضرة حتى لا تقتلهم لكن إذا لم ننبههم فستقتلهم هذه الأنساق مضمرة دون أن يعلموا.
* الإعلام.. ما دوره في هذا المجال؟
- أي إعلام؟
* أقصد الإعلام بشقه السالب في تكريس مثل هذه العلل النسقية؟
- عندما نتحدث عن الإعلام يجب أن نتحدث عن نوعين أساسيين من الإعلام؛ الإعلام الرسمي وهذا موجه والإعلام الرسمي الموجه تصبح دراسته أو البحث فيه عبثاً لأنه لا يمثل أحداً وليس له قيمة، والإعلام الحر في المنطقة العربية ليس كثيراً وليس كبيراً وقاعدته ليست عريضة لكن الباحث الذكي يستطيع أن يستشف عبر تتبع مجموعة من الأنشطة الإعلامية ومجموعة من الفضائيات ومجموعة من النشرات ومجموعة من الصحف سيجد أن الحقيقة مبعثرة على أجزاء؛ هذه الجريدة تقول جزءاً وهذه المحطة الفضائية تقول جزءاً، وهذا المعلق يقول جزءاً، وهذا الكاتب يقول جزءاً فتلملم من هذه الجزئيات بوعي نقدي واضح ثم تشكل الحقيقة، لكن في الغالب لا أحد يعطي الحقيقة كاملة لا يعطي إلا أجزاء من الحقيقة أو يعطي تفسيره هو للحقيقة. أنت تقرأ تفسير الناس للحقيقة وليس الحقيقة، إنما الباحث هو الذي يجمع ويتعب من أجل أن يلملم أجزاء الصورة ليكون الصورة.
* ما أبرز المحاور إلى جانب توعية الناس وتبصيرهم بإشكالات النسق المضمر.. ما المحاور وما أبرزها لكي تحقق ما تريد في سبيل الإصلاح؟
- لا أريد ولا أحب أن أوهم نفسي أو أوهم الآخرين أن لدي مشروعاً إصلاحياً كبيراً فهذه ليست مهمة الناقد، الناقد ليست مهمته الإصلاح مهمة الناقد أن يقرأ الظواهر بوعي عقلاني نقدي شجاع ثم بعد ذلك يترك الأمر للمجتمع المهمة الكبرى لإصلاح المجتمع أن يصلح المجتمع نفسه، الادعاء بأنك ستصلح المجتمع ادعاء باطل أنت لا تستطيع أن تصلح المجتمع وأنا أقول دائما في قاعة الدرس يجب أن يتعلم الناس كيف يعلمون أنفسهم وإلا فسيصبحون عالة على غيرهم وهذا أفعله مع طلبتي لا أحد يستطيع أن يصلح المجتمع ولكنه يستطيع أن يصلح نفسه والمهمة المناطة بك أن تعلم المجتمع كيف يصلح نفسه وكما قلت لك عن مزاين الإبل: فقد ظهر أناس يحاولون أن يجعلوا هذا المهرجان إنسانياً ومنصفاً وعادلاً وليس انحيازياً وليس عنصرياً ظهر الآن من داخل شعراء النبط الذين نتهمهم بالانحيازات كلها من ينادي بصوت واضح ونبيل جدا إلى فئة الشعر إلى فئة تنتصر للجمال وليس للقبيحات العنصرية كل هذه الظواهر إيجابية يجب أن ننبه إليها ونحييها ونرحب بها وأنا أشكر الناس الذين تكلموا في مهرجان مزاين الإبل الأخير وتكلموا بأسلوب راق جدا في محاولة لنزع جاهلية الذات وعنصريتها وأظهروا أنهم ليسوا عنصريين، والإنسان النبيل الشريف ليس عنصرياً، العنصرية عيب لابد للإنسان أن يدرك أنها قبح شديد وعامل مضاد للدين للعقل للثقافة للمجتمع لكل شيء.. مضاد لذاته أيضا إذا نبهتهم إلى هذا يتنبهون ليس صعباً على النائم أن يستيقظ يمكنك أن تجعله يستيقظ لكن لابد من الضرب بشدة حتى يستيقظ.
* تتوقع يا دكتور أن هذا سيحدث في مدة زمنية قريبة؟
- لا طبعا .. الظواهر الاجتماعية تكونت خلال قرون إذا كنا نتكلم عن أبي ذر الغفاري وقول الرسول عليه الصلاة والسلام له (إنك امرؤ فيك جاهلية) كم بيننا وبين ذلك بيننا خمسة عشر قرنا يعني أن هذه المسألة عمرها أكثر من خمسة عشر قرنا وسنحتاج إلى مجهود ليس سهلا لمواجهة كل الظواهر العنصرية. ليس هذا فقط حتى الشعوبية والشعوبية ضد العرب هناك من يكتب ضد العرب كعرق وكجنس وهذه انحيازية فهذا خطأ يقابله خطأ فلا ينبغي أن ننتقل من خطأ إلى خطأ بل من خطأ إلى صواب والآية الكريمة تقول: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) لا تجعل غضبك من فئة بسبب أخطائهم أن تخطئ عليهم إذا أخطأت عليهم صرت مثلهم.
مثل الطبيب لو تشاجر مع المريض، تصور طبيباً نفسانياً وعنده مريض نفساني بعد قليل وجدتهم يضرب بعضهم بعض أين يكون العلاج في هذه الحالة من الممكن أن المريض النفساني يشتم الطبيب، لكن إذا شتم الطبيب المريض فأين يكون العلاج؟ فالاثنان صارا مرضى هنا النقد السلبي بدلا من أن يدرس الظاهرة يبدأ يهاجمها فيصبح مثلها، فلا فرق. هذا الذي يجب وهذا الذي نسميه النسق، وكثير من الكتاب تجد أنهم نسقيون وهم يدعون الحرية والديموقراطية والإنصاف والعدالة، وتجد كلامهم نفسه كلاماً نسقياً كلاماً عنصرياً كلاماً عدوانياً ضد الآخر.
* هل ترى أن كل من انتقد مزاين الإبل هم نسقيون؟
- لا أستطيع أن أقول بهذا أو لا لأني لم أقرأ كل ما كتب عن مزاين الإبل هذا أولاً فيجب أن أكون منصفا مع الناس، ثانيا هناك أفكار قيلت وأرى أنها صحيحة وإن اختلفت مع رأي وهذه حقيقة يجب أن تقال أنا فقط أقول إن من يطالب بإلغاء مزاين الإبل لا يقدم حلا بل يزيد المشكلة إشكالاً أما الذي يوجه سهامه ونقده نحو العنصرية فهذا محق ويجب أن أضع يده في يدي هنا لابد أن نميز حتى لا أتهم الناس كتلة واحدة وأقع في الأخطاء التي أنادي بتفاديها.
* أشكال التجمعات الاجتماعية القبلية - الاجتماعات العائلية - شجرة النسب - إلى ماذا تقودنا قراءة هذه الأشكال.. هل هي شكل من أشكال البحث عن الأمان..؟
- دعنا نميز بين الأمثلة التي ذكرت بعضها إيجابي وبعضها سلبي، تدوين الأنساب في شجرة نسب أنا أعتقد أنه ظاهرة سلبية ليس لها معنى. هذه الظاهرة تعزز العنصرية لدى الجيل الجديد على الأقل الجيل الجديد ينشأ في البيت وينظر إلى هذه الشجرة المرسومة وهي موضوعة في مكان مميز في البيت وبارز ويبدأ يعمل تحيزات من سن مبكرة بأن هذه الشجرة لها شرف وأنبل من الشجرات الأخرى هنا يبدأ الخطأ ويبدأ الخلل.
أما بالنسبة للاجتماعات العائلية فهذه جيدة يجب أن ندعو إليها أن تلتقي العائلات مع بعض يحدث تواد وتراحم وتعارف بين الجيل الجديد والجيل القديم. في أمريكا الآن بدأوا يعودون إليها يسمونها إعادة التواصل وإعادة اللحمة (Reuonion) وكثير الآن من الحملات الانتخابية تركز على مفهوم العودة إلى العائلة، فالعائلة وحدة اجتماعية مهمة جداً وإذا تفككت تفكك المجتمع كله تفككا خطير جداً لابد أن نحافظ وندفع باتجاه النمو العائلي، فالعائلة وحدة لا دخل لها في العنصريات الأخرى. العائلة ليست عنصرية. العنصرية خارج إطار العائلة وتحضر إلى العائلة أحيانا تستضاف ويجري تبنيها داخل بعض العائلات. هنا يجب أن نفرق كما فرقنا بين مزايين الإبل وبين العنصرية التي يمكن أن تصاحبها.
لا بد أن نفرق بين العائلة كوحدة اجتماعية تقوم على صلة الرحم وعلى البر وعلى التآزر والتعاضد وتقوم على رمزية العائلة هناك أناس أحيانا يتجنبون الوقوع في الخطأ حفاظا على اسم العائلة أكثر من فرديته فصار للعائلة قيمة اجتماعية وأحد القراء طالبني بحل وأنا لا أضع حلولا والناس هي التي تضع الحلول ولكن في هذه الحالة أخذت استثناء وقلت الحل في العائلة، الحل في إعطاء العائلة حقها، العائلة إذا أعطيت حقها أدت الدور الإيجابي في المجتمع لكن الخروج من العائلة بإلغائها من فرد غير منتم يصبح هذا الفرد ضارا غير نافع أو مجرما يضر نفسه لأنه ليس لديه أي شيء يحميه أو يمنعه.
أو الخروج من العائلة إلى الإطار الأكبر الذي تنتمي إليه العائلة اسمه طائفة اسمه مذهب اسمه طبقة اسمه قبيلة كل هذه الأشياء خطأ لأنك تخرج من شيء جميل إلى شيء غير جميل وتخرج إلى انحيازات.. فالأمثلة التي ضربت بعضها إيجابي وبعضها سلبي يجب أن ننمي الإيجابي في حين أن ننبه إلى السلبي هذا هو الشيء الأساسي.
* وما السلبي؟
شجرة النسب سلبية لأنها تنتمي إلى جد بعيد في المدى وكثير لا يدرون أنه جدهم أو لا، ويرون أن الدم أرقى وأعرق فإذا كانت كل فئة تدعي أنها أشرف وأعظم فمن الذي ليس شريفا ولا عظيما، فمن الأقل ومن الأعظم؟! فهذه حزمة من الادعاءات تتحول مع الزمن إلى معتقد صلب وتأتي الأجيال المتأخرة وتصدق تصديقاً مطلقاً وهنا المشكلة. يجب أن نفكك ذلك الخطاب لأنه ليس ادعاءً فطرياً كأن تقول إن الإنسان هو الذي يمشي على رجلين هذه ظاهرة طبيعية ومقبولة لكن أن تقول إن الإنسان الذي ينتمي إلى الجد الفلاني إذاً أين يذهب آدم وكلنا ننتمي إلى آدم، كلنا نصل لخط واحد لماذا الخطوط تفرقت.. لا أحد يعطيك مبررا على الإطلاق غير الادعاء والادعاء لا يصبح حقيقة أبداً.
* هل هذه التجمعات هي شكل من أشكال البحث عن الأمان؟
- الأمان جزء من الغرائز الأساسية للإنسان مثل ما يبحث عن الطعام يبحث عن الأمان، الإنسان لابد أن يشعر بأمان، أنت مثلا إذا جلست في الرياض وليس لك أصدقاء تشعر بالفراغ العظيم تحتاج إلى الأصدقاء، منظومة الأصدقاء أمان، منظومة العمل أمان، منظومة المحبة حواليك أمان، لو تحولت محبة الأصدقاء لك إلى عداء تشعر حينئذ بالأمن تشعر بالخوف.
فكل نوع من أنواع الانتماء إلى نقابة إلى جمعية إلى ناد إلى مؤسسة إلى قبيلة إلى عائلة إلى طائفة إلى فئة إلى جنس الطيور على أشكالها تقع ما بالك بالإنسان كلها صيغ من صيغ الأمان لابد أن تكون موجودة وحين لا تكون موجودة يجب البحث عنها.
* لكن حينما يتحول البحث عن الأمان إلى البحث عن حمية؟
- نقول الفرق بين الظاهرة الثقافية الطبيعية وبين الخطاب الذي يشذ الخطاب العنصري ويصبح غير طبيعي التحول من الحق إلى الباطل إذا تحولت إلى حمية تحولت من الحق إلى الباطل فبدلا من أن تشكل حواليك مجموعة من الأصدقاء، انظر كيف تتحول منظومة من وضع إيجابي إلى وضع سلبي هذه هي اللحظات التي يجب أن ننتبه إليها عندما نتحول. جميل أن نأكل الكنافة الجميلة اللذيذة لكن إذا سببت لنا الكولسترول والضغط والسكر هل تصبح الكنافة جميلة وظريفة ولذيذة، لا تصبح جميلة، هذه النقطة في لحظة تحول الجميل إلى القبيح ويتحول الحق إلى باطل كلمة حق يراد بها باطل يجب أن ننتبه إلى لحظات التحول هذه لأنها خطيرة جداً لأنها تلبس على الناس فيصبح انتماؤك إلى أصدقائك أهم من انتمائك للحقيقة أهم من انتمائك للعدالة والإنصاف، صديقك مثلا أجرم ولا تريد أن تشهد عليه لأنه صديقك هل هذا حق أم باطل؟ باطل طبعاً لكن في عرف العصابة يعتبر خيرا يصبح قانونا للعصابة، انظر كيف قالوا انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قال كيف أنصفه ظالماً؟ قال أن ترده عن ظلمه نصرته، يمكن أن يتحول هذا الشعار بالإطلاق ليس بأن ترده عن ظلمه بأن تعينه على الظلم، هذا المعنى جاهلي كان في الجاهلية يتفاخرون به، أحد الناس سأل عن الحجاج قال الأعرابي تركته في الطرق يظلم وحده. اعتبرها مفخرة أنه الوحيد الظالم فيعتبرها قوة هذه من العنصرية الجاهلية يعني ليست من الإسلام ليست من المروءة ليست من العقل ليست من الأخلاق ليست من القيم على الإطلاق لكن عند هذا الرجل كانت قيمة بمعنى الظالم أقوى الأقوياء (ما أحد يقدر يقترب منه).
* للتواصل مع المحرر aldihaya2004@hotmail.com