الإنسان بطبعة ينسى الألم والمعاناة التي يمر بها من جراء حادثة ما، خصوصاً إذا مرت سنوات على تلك الحادثة لكن الذاكرة تحتفظ ببعض الصور التي تفرضها علينا بين الحين والآخر، ربما لتخبرنا بأننا مررنا من هذا الطريق أو ذاك وأن علينا التذكر لا النسيان.
قبل سنوات مررت بفترة زمنية صعبة ، ظرف طارئ داهم عائلتي وقلب موازين الراحة الجزئية التي كنا نتمتع بها وهي مرحلة مضت على خير، وقد عانيت منها مع بعض أفراد عائلتي آلام نفسية وجسدية جعلت تفكيري يتوقف عن الحياة في تلك المرحلة، وكنت بالضبط كحبة رمل سقطت في قعر فنجال قهوة وأخذت تدور في داخلة لا تطمح إلى شيء سوى الخروج من ذلك القعر.
وكنت حينها أتألم أكثر من غيري ربما بحكم إنني الفتاة الوحيدة في العائلة، وربما لأن أمي كانت هي الأزمة.
أتذكر وقتها بأنني كنت مسالمة.. مسالمة إلى أبعد حد وكنت هادئة لا أتحدث كثيراً هي بضع كلمات وكانت إجابات على أسئلة لا أكثر كنت أبتسم كثيرا وكانت ابتسامة الخائف المترقب وأكثرها كان من نصيب الطبيب.. أذكر بأنني كنت افرك يدي الاثنتين مع بعضهما البعض بشكل دائم، ولم أكن آكل إلا ما يجعلني استمر في الحياة ولم أكن أشعر بالجوع..
كانت أشهراً طويلة جدا، ومع ذلك لا أتذكرها بالتفصيل.. فقط أتذكر بعض الصور وأكثر تلك الصور التصاقا بذاكرتي هي هذه الصورة : كنت انظر من نافذة إحدى غرف المستشفى التي تطل على شارع رئيسي يزدحم في النهار ويخلو من الحركة آخر الليل، وكان من النادر جدا مشاهدة سيارة تمر به بعد الثانية أو الثالثة صباحا.. وفي تلك الأثناء خرج عامل آسيوي بسيط يقود دراجة هوائية ويقطع الشارع بالعرض من اليمين إلى اليسار وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا تقريبا، كنت أنظر إليه وهو يسير ببطء ويعبر إلى الجهة الأخرى وقبل أن يختفي عن ناظري ودون شعور قلت (يا بختك).. قلتها بحسد، شعرت بأن ذلك العامل البسيط يملك أشياء عظيمة لا أملكها أنا في تلك اللحظة، ربما تكون حرية الحركة خارج المستشفى وربما تكون راحة البال التي كنت أفتقدها في تلك المرحلة، وربما لأنني شعرت بأنه لا يحمل (هماً) مثلي، و بأن حياته تسير دون عرقلة.. شعرت بأنه سعيد رغم فقره وغربته، وعاهدت نفسي لحظتها أن لا أتذمر من حياتي أبداً إن تخطيت ذلك الظرف.
اليوم وبعد مرور سنين على تلك الصورة أجدني أتذمر من ابسط الأشياء، وأثور في وجه أتفه الأمور أتحدث كثيرا أناقش مناقشات عقيمة، وبالكاد أبتسم لم أعد أفرك يدي الاثنتين أصبحت أشير بهما في وجه الآخرين عندما استفز في الشارع أو في مكان عام أو في البيت حتى ! انه الإنسان الذي ( لا يتعلم ) ولا أعلم بالضبط لِمَ كتبت هذه المقالة، ربما لأنني أردت معاقبة نفسي أمام الناس على عدم وفائي ببعض الوعود التي أقطعها على نفسي خصوصا عندما أتعرض لمواقف سيئة (من بعض الناس).
واسمحوا لي أن أنهي هذه السطور بحكاية طريفة من التراث تحكيها لي أمي دائما عندما أعدها بشيء في وقت حرج ثم انكث بوعدي بعد انقضاء ذلك الوقت..
تقول الحكاية: كان هناك مجموعة من الرجال في رحلة بحرية، وأثناء عودتهم داهمتهم عاصفة، فقال أحدهم وهو يملك مالا عندما نصل إلى بر الأمان سوف أذبح ثوراً وأتصدق بلحمه، وحين اقتربوا أكثر وجد أن الثور باهظ الثمن، فقال سأذبح خروفا، ثم عندما أوشكوا على الوصول قال سأذبح ديكا وعندما وصلوا إلى اليابسة قال (ولا ريشة)!