في حُمّى الالتفات العربي والإسلامي الجمعي إلى الحفر في التراث ينهض المثقف الإصلاحي الراحل الدكتور علي شريعتي مهندس الصحوة الدينية وعالم الاجتماع البارز في ستينيات القرن الفارط. ولعل الزخم الذي أثاره وخلّفه د. شريعتي على مستوى النخب والشارع الإيراني يدفعنا طوعاً إلى شيء من التماهي الواعي مع هذه التجربة بكل أبعادها التنويرية والدعوية والوحدوية، فمنذ عودته من سوربون فرنسا حتى وفاته ودفنه في دمشق والمشهد الإيراني على الصعيد السياسي كان غايةً في التوتر حتى انتهى بانتصار الثورة بعد مخاض عسير ومواجهات دامية كان للفكر دوره في إذكائها وبقيت هذه المشاريع الفكرية مرسماً للمشهد الإيراني حتى الساعة.
إن ما يدعوني للكتابة عنه هو الوهج الذي استوعبته تجربته إذ إن ممكنات التواصل المتجدد معه ستفتح أفق النقاش بشأن ما قدمه على كل الصعدة وهل سيكون د. شريعتي على مستوى هذا التواصل. أم أن الراصد والمتلمس للخط الفكري العريض لعلي شريعتي منساق اضطراراً إلى البحث عن نمط أفضل لحكم أدق وهذا لا يتأتى دون دمج تجربة شريعتي من حيث الهم والمشروع النهضوي والمرجعية المعرفية السوربونية وهنا يبرز المفكر مالك بن بني ليلبي خانة المقارنة فهما إصلاحيان داعيتان لمشروع واحد وبوصلة واحدة.
لكن المقاربة لن تكون عادلة إذ إن القدرات التي يتمتع بها أحدهما تختلف عن الآخر فأدوات ابن نبي ذات طابع حداثي تنويري في حين أن شريعتي لم يتجاوز حداثته التقليدية مع اشتغاله بالتنوير الديني أكثر من الثقافي فضلاً عن ارتهان شريعتي للتراث المذهبي المتجلي في تمحوره على رموز تاريخيه محدّدة بل ومتكررة وذات دلالات أشبه بالمسطحة على خلاف ابن نبي الذي لا يقيم تلك الأطر الحديدية بين التاريخ بماضويته والمجال الإنساني الجديد فابن نبي أقل استثماراً للإيدولوجيا أو إعادة إنتاجها فهو متخفف من التعامل مع التاريخ الإسلامي بوصفه أُستاذاً على خلاف شريعتي.
ومن الممكن أن يكون السبب في هذا هو أن شريعتي يبادر للجوء إلى الرموز والاحتماء بدلالاتها لندرتها في التراث الشيعي في حين أن ابن نبي يتعامل مع الرموز التراثية السنية بوصفها التاريخ الإسلامي برمته فشريعتي لا ينفك عن طرح نفسه وفكره إلى العالم الطرح الشخصي المزدوج (مسلم - شيعي) على حين أن ابن نبي يطرح نفسه ك(مسلم) وحسب... هكذا هو التاريخ وهكذا صُنّفنا مذهبياً وصُرِف لنا بطاقات الهوية وفق هذا فعبارة (شيعي) أو (تشيع) حاضرة بعنفوان عند شريعتي إلى درجة أن (الإسلام) و(الشيع) يفسر أحدهما الآخر على نحو قلقٍ ليس له ملامح أو محددات. وهذا خرق فاغر في المقاربة ولكن هذا لن يكسر المحاولة على الرغم من أنه يحمل أزمة أمة وشريعتي يعالج أزمة الطائفة.
بعيداً أو قريباً من هذا وبعد استفاضة في مطالعة تراثه أجد شريعتي لم يسبق زمنه واشتغل على أدوات مرحلية قصيرة الأجل فكان فارسها الذي لا يبارى ثم تلاشت فروسيته بتلاشي المرحلة وهذا لا ينسحب على ابن نبي الذي لازالت كتاباته تثير أسئلة تتخذ شكل مشاريع والقارئ الراصد يدرك برهافة أن شريعتي لم يكن بصمة محورية أو منعطفاً حاسماً يتجاوز الأزمنة والجغرافيا بل لم يَعْدُ أن يكون ثائراً عاطفياً تنتهي صلاحية ثورته ببلوغ الهدف الأول منها. وكتابه الوحيد الذي ضرب في الآفاق هو (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) فشهرته الكونية كانت إصلاحاً للتصور الديني واضطراراً مذهبيا عَدّهُ السّنّة سقطةً راحوا يسوقونها ولم يكن ثمة خدمة ينطوي عليها الكتاب لأيّ مشروع وحدوي عدا رصد تاريخي للمرحلة الصفوية اتهمها شريعتي بالاختلاف وتأجيج الكراهية من خلال مرويات مكذوبة ومتناقضة خارجة عن عقل شريعتي وكان هدفه نقل التلقي من الفوضى إلى النظام وترشيد وترتيب مشاعر الكراهية والسمو بها من السوقي إلى الأكاديمي ومن الشعبي إلى النخبوي حتى لو كانت المشاعر الأكاديمية والنخبوية ولا تقل صدامية عنها عند الصفويين فهندسة المواجهة العاطفية وليس التقليل منها جزء من أزمة الهوية المزدوجة التي صارع شريعتي لفك التباسها فضلاً عن أن مشروع شريعتي لمواجهة الأخطاء الصفوية لم يكن يقتضي مفكراً أو فيلسوفاً بل مؤرخ من درجة متوسطة.
هذه المقارنة المحرجة تتأجج حال إجرائها مع مفكرين سنّة وشيعة بلغوا عمقاً إنسانياً في تناول الظاهرة الاجتماعية فكل مثقف ومتصدر لمنبر ثقافي لا يسعه إضافة هامشٍ ملونٍ في تيار الوعي الإسلامي والإنساني وسيحشر في خانة الدعاة لا المفكرين ناهيك عن أن شريعتي طرح منهج التفسير الديني للظاهرة الاجتماعية والإنسانية وهو منهج لا يتم تناوله بالقراءة العاطفية للتاريخ إلاّ وأدوات المقارنة بين الأديان في الحسبان وهذا مطروح في هوامش ضئيلة حتى في كتابه (تاريخ الحضارات) ويفسر هذا بقوة كتابه (العودة إلى الذات) التي أعدّها إضافة تطبيقية لمصداقية المنهج الذي اعتمده وكلها لا تتجاوز شروط الوعظ والنصيحة.
يذهب أحد المراقبين الثقافيين إلى أن تراث شريعتي يتم إحياؤه في إيران وهذا في تصوري مصداق لما أسلفت فإيران تعيش عودة إلى ثقافة الثورة الأولى وعندها سيبرز شريعتي كمحرك للشارع باتجاه الاحتجاج والسؤال هنا هل ثقافة الاحتجاج تحتاج منظراً أو مثقفاً في زمن الاحتجاجات والمعارضة الحرّة في العالم أم أن استدعاء رمزية شريعتي هو من قبيل تكثيف السواد الثوري في الشارع الإيراني لا من قبيل الإضافة النوعية للمحرك الثوري سيما أن الاستعداد الاحتجاجي الإيراني بات برنامجاً متجذراً في الممارسة والوعي الإيرانيين فرمزية شريعتي وكتاباته لن تضيف رصيداً ثورياً جديداً لمشهد المعارضة... فأي شيء يستدعي بروز رمزية شريعتي؟ الإجابة تقفزعلى الشارع الثوري إلى المنهج الضمني الذي ربّى شريعتي جيله عليه وهو اللجوء إلى الرمز التاريخي وتفجير دلالاته وإعادة إنتاجه باتجاه خدمة القضية وها هو شريعتي يلعب دور الرمز التاريخي المكتنز بالدلالات ويتحول من طرف في المعادلة إلى طرف آخر ومن محلل دلالي إلى مادة للتحليل ويكرس منهجه الديني في تناول الظاهرة الاجتماعية.. جملة من الأسئلة والإجابات الجاهزة تستفزنا إلى السؤال الأكبر.. أعد بطرحه والإجابة عنه حالما أفرغ من بحثي حول علي شريعتي.
- الرياض
Hm32@hotmail.com