Culture Magazine Monday  24/03/2008 G Issue 240
فضاءات
الأثنين 16 ,ربيع الاول 1429   العدد  240
 

خطاب التنوير في القصة القصيرة السعودية«3»
د. لمياء باعشن

 

 

ونجد خطاب المواجهة ماثلاً بقوة في الكتابة النسائية التي تطورت وأصبحت أكثر جرأة في مقاربة التابوهات، واستخدمت مضامينها القصصية كميكانزم دفاعي ضد تسلط الرجل على المرأة. ويتمحورالتحرك القصصي لكثير من الكاتبات السعوديات حول تجسيد الهم الأنثوي النابع من جوانية الذات الأنثوية وذلك باستخدام البوح المباشر كوسيلة مزدوجة للكشف وللاعتراض على التسلّط الذكوري والمؤسساتي. تتوارى صورة المرأة المظلومة المتباكية لتحل محلها أنثى قوية ترفض سلبية السائد وتتمرد على المألوف وتخرج عن أطر الأعراف، وهي صورة متناغمة مع رؤية العديد من الكاتبات. تقرر بطلة لطيفة السالم في (قصة الزمن الأسطورة) انتزاع حق الكلام من رجل راسخ في رجعيته:) هو لم يتغير.. سحق شخصيتها.. دمر استقلالها الذاتي .. يطالبها أن تصبح ظلاً.. لا صوت له ولا حق)، أما بطلة حصة التويجري في قصة (وطال شعري من جديد 1398) التي تهديها بكل جرأة تحفيزية : (إهداء إلى كل فتاة من بلادي..) فهي امرأة تختار أن تفعل ثم تقول :(الحياة معه أصبحت مملة.. أدرك مقدار حبه لشعري الطويل.. فقمت بقصه - ليتك لم تقصيه! قلت بتحد: (سأفعل ما أريد.. لقد مللت سيطرتك.. أنت تعاملني كالدمية.. ولكنك كنت غبياً .. لقد كرهت نفسي إذ أنفذ أوامرك دون أن يكون لي رأي).

تهدف هذه الومضات في العديد من قصص الكتاب السعوديين إلى محاولة استخراج نزعة الرفض للواقع بتصوير ما تكابده الذات المستنيرة من جراء عدم قدرتها على الانسجام في النسق الاجتماعي ورغبتها في تحرير طاقتها التعرفية من الأشكال المغلقة والحتمية التي تترصد حياتها اليومية. في قصة عبد الله السالمي) بلا هدف وراء القطيع) يختار البطل لنفسه مخرجاً من أزمته بالخروج عن مسار القطيع المحدد: (ما زال الناس يعتنون بأنفسهم جيداً .. يتعطرون ويتأنقون.. بينما تنمو الرطوبة في الداخل .. بلا توقف.. أما أنا فسأظل أغتسل كما يبدو.. أغتسل فقط لأتحرر من الرطوبة القاتلة.) لكن بطل محمد علوان يجد نفسه معزولاً عن القطيع دون اختيار منه:

الظلام يحيط بكل شيء كثيف بل إن الظلام أصبح حياته حتى أنه سقط على وجهه حين واجهه النور تراجع ألف خطوة.. أصبح خارج منطقة الضوء.. الظلام يحيط بكل شيء.. التراب هو التراب.. ألف هذه الرائحة بعفونتها التي لم يغسلها النور.. يتذكر سقوطه على وجهه حين واجهه النور.. ازدواجية عجيبة.. في الظلام يشعر الإنسان بوحدته وانفراده.. في الظلام تنمو طفيليات كثيرة سامة يقتلها النور.. حزمة من ضوء تنبعث على مقربة منه..

أشعلته ضوءاً وبهجة.. يهرب لم يجد سوى كهف كبير.. النور خارجه يجعل الحياة تتمدد..

تنمو.. في داخل الكهف سجون كثيرة تقيد حركته.. يحس بالاختناق.. يخرج يده من كوة

صغيرة حيث الشمس تملأ الوجوه بالحب والعطاء.. يعيد يده تشتعل بياضاً... (يسمع) أشخاصاً يرددون كلاماً مبهماً لا يفهمه: البرص .. البرص.. البرص.. تجمع الناس واختلفوا على دفنه..ثم اتفقوا.. الجسد يدفن بعد قطع اليد البيضاء ودفنها في مقبرة منعزلة لأنها يد رجل آخر( ) لا يتفقون أبداً) من (الخبز والصمت).

أمام هذا العزل الجبري ومقاومة التفاعل مع النور يشعر الكاتب بالهزيمة والإحباط، فيرمي بعطائه إلى أتون نور أقوى. تقول الفيزياء إن النور والحرارة شيء واحد يدعى الكمية، وحين يشعر البطل في قصة الشاعر والنار لقماشة السيف أن) الآخرون سطحيون عاجزون عن فهمه ولا يمكن أن يتوصلوا إلى إدراك دوافعه الكامنة وراء موقفه من الحياة، يلجأ إلى عزلته وسديم غربته يزداد هلامية فيطعم النار نتاج عقله وروحه:(أمسك بكتبه ومؤلفاته وأوراقه وألقى بها في النار.. ألقى بها.. صوت حاد يصرخ من داخله: أأحرقتها؟ ذوب عقل وروح؟ صوت آخر داخله: دعها للنار تطويها.. ولا على الأعتاب وتحت الأقدام تهدر. تصاعد الدخان أسود خانقاً.. بات الفكر دخانا).ً

هذا الإحساس بعدم الجدوى يلاحق بطل محمد أمين يحي في(المجد الضائع 1984)، فحماد الذي أراد أن يكون أديباً يكتب قصصاً) تبقى على الزمن سفراً يستضيء به الأدب ويستنير به الجيل) يحترق منزله فيقذف) بنفسه في الأتون الأحمر) بحثاً عن كتابه فيتلاشى بين النيران). هذه النار المعادلة للتزايد النوري تظهر أيضاً في قصة محمد علوان ((الجدران الترابية) من الخبز والصمت) التي تصور هزيمة الفنان أمام المجتمع الذي لا يفهمه، ففرشاته) تحمل الزيت لترسم به وجه الحضارة..) لكنه يواجه بتخلف أهل قريته وجهلهم بقيمة الفن:(حتى عباراتك لم نعد نفهمها.. أنت تعرف.. الذكاء لا ينقصنا. أراد أن يتفوه. اليد المعروقة ترتفع. تجارب السنين. ماذا ستقول؟ لم نفهمك؟ ألم تتعلم شيئاً في حياتك سوى حمل هذه الفرشاة الغبية؟ علمنا كيف نوقف هذه الرمال؟ علمنا كيف نهزم المرض؟ علمنا.. كيف؟ كيف؟ يا للحزن.. بريشته كتب كل ذلك.. لكنهم يرفضون.. جاءوا باللوحات.. النار تشتعل في الوجوه الصارمة. النار تأكل لوحاته.. جميعها تحترق.. أحس بها تصرخ.. بلا وعي يدخل يده في النار.. لينقذها.. تتحول إلى شعلة تنهش يده).

مقاومة التفاعل مع النور هي واحدة من معوقات انتشاره وبالتالي توقيف منفعيته: وهل يبصر الخفاش والنور ساطع؟ ويأتي حجب الضوء أيضاً من مقاومة نشره في المكان الأول، فكتاب القصة القصيرة يعانون من التدخل القمعي للرقابة الشديدة على صفحات الجرائد والمجلات حيث ينال القصص الكثير من الحذف والإضافة والتشويه دون إذن الكاتب، ما يعرقل تدفق الضوء الكامن بين السطور:(في أي نفق من أنفاق العتمة يمكن أن يمارس المثقف دوراً تنويرياً، والأنفاق تلتف حول عنقه وكأن حبلاً واحداً لا يكفي لشنق العصفور((فوزية أبو خالد، الجزيرة). يعمل الكاتب القصصي داخل مجتمع محافظ يتستر على المشاكل التي يضيق بها ويتكتم على قضاياه الخاصة :(تلك الفترة كانت تطالب (رسمياً) بتقليل النكهة السعودية من الأدب القصصي، فكان أن لجأ القصاصون إلى (تشليح) القصة من أسمائها وتفاصيلها المحلية وإلباسها لباساً عربياً حتى تستطيع أن ترى النور.. كانت هناك عملية (تجيير) وتشاكل) (النابلسي، 140)، وهذا أمر ما زال يعاني منه الكتاب في وقتنا الحاضر، فلا يحصل الكاتب على تصريح بالطبع إلا لو انصاع وغّير وشوّه الملامح المحلية لعمله الفني. تتعرض القصة القصيرة للكثير من المحاصرة والترصد والمطالبة بنزع الخصائص المحلية لأن طاقاتها تكمن في وضع المجتمع في مواجهة عوراته النابعة من تسلط مفاهيمه البالية. يقول القاص حسين علي حسين:(الواحد منا يكتب وفي داخله جندي لا رقيب. من أجل هذا أرى أن أكثر ما يناسبنا هو فن القصة القصيرة، لأنه فن قائم على شحنة ترميها من غير أن يدري بها أحد)(قوافل، 121). هكذا تتخفى المضامين التنويرية داخل المتن القصصي فتكون أقنعتها هي جواز مرورها إلى النور.

يتمثل روح الفن القصصي في شحن المضامين واحتشاد اللحظات وتكثيف المعاني: فالقصة القصيرة كبسولة من رصاص يخترق دون أن يترك أثراً. فكيف نطلب المواجهة من فن مخاتل؟ هذه المواصفات هي التي ساعدت كتاب القصة السعوديين على ابتكار ما يمكن أن نسميه (استراتيجيات التمرير)، وهذا ما عبر عنه فهد العتيق في قصة (حصة رسم) التي تحكي عن طفل فنان يرسم بحرية في حين يغط الأستاذ والتلاميذ في نوم عميق:

(راح الفصل بكامل نجومه في نومة جميلة ما عدا طفل صغير.. فنان.. يكره النوم..

حماسه سخي.. أخذته نشوة الإحساس بالوحدة والحرية إلا ما لا نهاية.. عيناه تتلألأ ببريق

الفرحة الموصولة التي يكتمها في صدره منذ أحس في البدء أن الجو موات ليمارس على

لوح الفصل ما يشاء). أما نتيجة رسمه فجاءت مشابهة للأستاذ الذي لا يدرك مدى ذلك

الشبه بل (يتأمل الوجه المرسوم ببراءة.. ويخرج من الفصل مصحوباً بالغموض) (من مجموعة إذعان صغير 1992).

*****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة