Culture Magazine Monday  04/02/2008 G Issue 232
مداخلات
الأثنين 27 ,محرم 1429   العدد  232
 
الكتابة فعل في التاريخ

 

 

ما أجمل الكلمة حين تكون مجردة من الهوى! وما أروع ذلك القلم الذي يداوي الجراح بمواجهته للواقع وفضحه، حتى يعيد هذا الواقع تشكيل نفسه من جديد!

ذلكم هو قلم الدكتور عبدالله الفيفي في مساقاته التي تستعصي على التدجين، وتتميز بالجرأة والتحدي، تخترق قلب الاشياء مثل سهم أجاد راميه التصويب. فقد تابعت باهتمام بالغ تلك (المساقات) وراني اليوم امتطي صهوة القلم، طالما أن هناك رجلاً لغته محددة، تعبر عن اقتناع واعتقاد عن هموم اللغة العربية.

من المعلوم بالضرورة أن اللغة هي المرآة التي تنعكس عليها حياة أصحابها، فإذا كانت اللغة صادقة فهي جديرة بأن تخلخل الأوضاع سعياً إلى ما هو أفضل، ودل ذلك على أن أصحابها أحياء يتطورون ويتجددون، وفي المقابل إذا كانت اللغة هلامية، مجرد ظواهر صوتية تبريرية تثبت الأوضاع دل ذلك على جمود أصحابها وموتهم، فتبرز لها حينذاك ظواهر صوتية تبريرية تثبت الأوضاع دل ذلك على جمود أصحابها وموتهم، فتبرز لها حينذاك أنياب وأظافر تقمع كل من يتمرد على خطابها.

لقد تحولت اللغة من وسيلة إلى غاية، أصبحنا نتكلم لا لنتفاهم أو نتواصل، أو نتعلم، أو نجوب الآفاق على أجنحة اللغة، لقد أصبحت اللغة مادة هلامية لزجة لا قوام لها، ولا دفء في مفاصلها، والمتتبع لمعظم الخطاب السائد الآن يلاحظ بسهولة أن لغتنا أصبحت مادة اجترارية تكرارية تلوكها الألسن، وتضغط عليها بفظاظة وهي تبدو جامدة الأنفاس لا تحمل رسالة ولا تصيب هدفا. قد أفرغها أصحابها من محتواها وشحنوها بصور سحرية وتهويمات سرابية وأصبحت علاقتنا بها علاقة غير شرعية على المستوى الأدبي والإعلامي فأنتجت مفاهيم شوهت نهر الحياة وأعاقت سير المياه فيه، وذلك حينما توضع الكلمات في غير موضعها فتنتج معاني ودلالات مزورة.

أقول ذلك وأنا على يقين أن الكلمة تصبح سجناً حين لا تنفتح على التاريخ، ولا تلتقي بالواقع مكتفية بالتهويم فوقه، فأي حياة للغة انطفأت جذوتها وخبت نارها وعجزت عن أداء رسالتها؟ فلا أدري سر هذا التفاؤل عند الأديبة سها جودت واللغة يغشيها ضباب كثيف وهي في احتضارها الأخير تستجير بمن كان له قلب. كيف تشرق الصورة في ظل نظام تعليمي يطمس الهوية العربية، ويجعل العامية هي الخطاب السائد في قاعات الدرس، حتى من المختصين في اللغة العربية، التي صارت اللغة على أيديهم أداة هدم لا أداة بناء للشخصية العربية، وتحولت إلى سيف يقطع الجذور والأغصان، لا محراثاً يشق الأرض ليلقي في رحمها بذور الحياة، فحين يطمئن الطالب إلى أن ما نقذفه في جوفه من ألفاظ وعبارات هو غذاء صحي، فيستيقظ على أن ما سمعه فيه هلاك للجسد والروح، فكم من الذين أصابت العجمة ألسنتم وأضحى عصيا برؤهم، يقول (مكسيم رودنسون: ما أسوأ اللغة التي لا فعل لها سوى فعل التوابل حين تساعدنا على ابتلاع الأطعمة الأكثر فساداً.

وما الفساد إلا نتيجة حتمية لغياب التربية اللغوية، وشيوع العامية التي اصبحت خطراً على اللغة الفصحى، واصبح لها سدنة ومريدون يؤصلون لها ويبررون لوجودها، مدعين أن العامية ليست فساداً ولا تدهوراً بل هي ناموس من نواميس الطبيعة.

ليس هذا ناموساً، إنما هو كابوس يعوق الحس والفكر، يصبح معه المرء معاقاً فكرياً ووجدانياً، وما أكثر المعاقين لغوياً هذه الأيام! بعد أن أصبحت العامية عفريتاً يصعب، بل يستحيل خروجه تحت تأثير أي حفلات زار مهما زاد عددها، وتقدمت درجة تقنياتها.

فما نشاهده ونسمعه ونقرؤه مما يؤذي الأسماع، ويفسد الأذواق في مختلف أجهزة الإعلام، ينذر بالخطر ويمهد لانقراض هذه اللغة وضياعها، ليس هذا تهويلاً، إنما قراءة لواقع اللغة العربية في هذا الزمن، الذي تصدى فيه لحركة التنوير من ليسوا بأكفاء. وقد عبر عن ذلك الشاعر العربي في قوله:

وإذا الأمور لغير كفء وسدت لم تلق من أشكالها فكاكا

هذا يحدث في ظل دور باهت ومخجل للمثقف العربي، حينما توارى صوته، واختفى دوره، وقبع خلف أرائك عجزه فاقداً بوصلته، فلم يعد يدري أين يتجه، وفي أي طريق يسير، وكأنما فقد وعيه وهو الذي يملك سيفاً لا يمكن لطاغوت أن يثنيه، هو سيف الكلمة البتار، فالكلمة تعني التنوير، والتنوير يعني التأهل والانحياز لحق هذه اللغة، ولكن أعراض الموت للثقافة والمثقف قد تجلت متمثلة في الصمت والانزواء والاختباء، والالتصاق بالجدران وفي اللا مبالاة، رغم ما يمتلكه المثقف من أدوات خاصة للاتصال في مقدمتها سحر الكلمة، منطوقة أم مكتوبة، إن الكلمة قادرة بآلياتها الخاصة أن تعيد تشكيل الأمة، لأن المبدع مؤسسة وحده، ومؤسسة قائمة بذاتها، وأنه ضمير لمجتمعه الخاص، وجنسه البشري.

فمتى يقوم المثقف العربي بدوره في إنقاذ ما تبقى من رمق في لغة هذه الأمة؟!

عبدالبر علواني سليمان مدارس الرحمانية الأهلية - سكاكا - الجوف


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة