Culture Magazine Monday  04/02/2008 G Issue 232
حوار
الأثنين 27 ,محرم 1429   العدد  232
 

قبل رحيله بأيام .. المفكر السوري أحمد حيدر يتحدث ل« الثقافية »:
السياسة هي الشر الضروري الذي لا ينبغي له أن يتجاوز حدوده ويطغى على حقل الحضارة

 

 
* اللاذقية - موفد الثقافية - حسن سلمان:

في بيته المتواضع ينكب المفكر السوري أحمد حيدر على كتابة إحدى مقالاته باجتهاد قلما نجده عند أقرانه من المفكرين، ورغم أن حيدر آثر العمل في الظل بعيداً عن المناصب السياسية وحفلات التكريم التي دعي إليها مراراً، فإن مسيرته الفكرية شهدت منعطفات كثيرة تنقّل خلالها بين عدة مذاهب فكرية ليبني في النهاية مذهبا خاصا به يتركز حول مفهوم (العطالة ونقيضها) الذي جعله محورا أساسياً لفكره واستمر في تطوير هذا المفهوم معتمداً على الواقع الإنساني، إضافة إلى الحوار مع أفكار الآخرين التي تشكل جزءا لا يتجزأ من هذا الواقع، كما يذكر في مقدمة كتابه (إعادة إنتاج الهوية).

وخلال مسيرة البحث عن العطالة وإيجاد السبل الكفيلة بتجاوزها وضع حيدر 10 كتب كان أولها (طريق الإنسان الجديد بين الحرية والاشتراكية) الذي صدر عن دار الآداب عام 1962، غير أن أحمد حيدر الذي آمن بأن (المعرفة شرط ضروري للحياة)، لم يمهله الموت بضعة أيام ليشهد خروج كتابه الجديد (الخروج من الاستلاب) إلى النور.

المجلة الثقافية زارت حيدر إلى بيته في ريف مدينة اللاذقية على الساحل السوري قبيل وفاته ببضعة أيام وكان معه الحوار التالي:

* في ظل غياب مشاريع فكرية واضحة لدى أغلب المفكرين العرب، تبدو أنت أكثر وضوحا من خلال تبنيك لمفهوم العطالة ونقيضها، وبحثك عن كيفية تجاوزها، بداية كيف تعرف العطالة؟ وماهو السبيل لتجاوزها؟

- العطالة هي: نوع من الجاذبية التي تجذب الإنسان وتمنعه من أن يعبر تعبيراً كاملاً عن ذاته، بمعنى آخر هي قوة سلبية تمنع الإنسان من الانفتاح على الواقع والفهم السليم له، ويميل البعض إلى تعريف العطالة بمفهوم طاقي بحت بأنها: البحث عن الطاقة الأقل أو الميل إلى الاقتصاد في الطاقة وبذل الجهد الأقل، ويمكننا القول أن مبدأ العطالة يتجلى في تعبيره الكامل من خلال مبدأ النيرفانا أو البحث عن الدرجة صفر من التوتر، كما يعبر فرويد.

أما كيفية تجاوز الإنسان لعطالته فتتم من خلال تحرره من ذاته أو من رغبة الأنا لديه، بمعنى آخر: إن العطالة تتجاوز نفسها بمقدار ما تدمر ذاتها وترفض أن تكون مغلقة على ذاتها وبالتالي تنفتح وتتجاوز ذاتها، لذلك نرى أن النرجسية بحد ذاتها ستظل عطالة إن لم تستطيع التخلي عن أصلها المرضي المغلق على ذاته، لكنها حين تنفجر وتتخلى عن صورتها البدئية (صورة الأنا العاشق لذاته والمغلق عليها)، عند ذلك تنفتح على العالم وتصبح نرجسية ملتصقة بالبعد الإنساني وبعد الواقع، والإنسان بهذا المعنى لكي يتحرر من العطالة وهي في صميمها نرجسية أولية مغلقة على ذاتها، ينبغي له أن تنفجر هذه النرجسية لديه وأن تنفتح على الوجود والآخر والواقع.

* لكنك في أحد مقالاتك تؤكد أن السلطة هي مركز العطالة.

- هذا صحيح، لأن السلطة هي مكان تمركز السياسة التي هي بحد ذاتها ميل نحو العطالة، والدافع الأساسي في السياسة هو دافع نرجسي، فالسياسة مدفوعة أولا بالزهو الذاتي أو الميل نحو الأعظمية وبالرغبة الذاتية في التملك المطلق وفي الراحة المطلقة، هذه الرغبة الذاتية هي رغبة في السياسة ولا تتجلى الرغبة الذاتية في النرجسية وحدها، لأن النرجسي لا يأخذ أبعاده الكاملة إلا في السياسة، فالسياسة هي في الحقيقة المحل الأعظم للسلطة والهيمنة والتملك.

* بمناسبة الحديث عن السياسة البعض يعرفها على أنها (فن الممكن) في حين يذهب آخرون إلى أنها (فن خداع الشعوب)، وأنت لديك تعاريف متعددة لها، والآن تشتغل على بحث خاص بذلك، كيف تعرف السياسة كمفهوم؟ وما إشكالية علاقتها بالدين؟

- السياسة هي فاعلية محددة تستمد المعقولية من الغايات الإنسانية العليا التي تؤلف حقلا متعاليا من القيم، وهي باستمرار عرض خطة أو مشروع وليس لأحد خبرة مباشرة بها، والتحقق العيني المباشر لهذه القيم هو ما نسميه بالثقافة أو الحضارة من علم وفن ودين وفلسفة، وهذه الحضارة هي في حوار مستمر مع السياسة تمنحها المعقولية وتعتبرها ضرورية للتحقق الواقعي، فالسياسة هي الشر الضروري الذي لا ينبغي له أن يتجاوز حدوده ويطغى على حقل الحضارة.

لكن السياسة رغم ذلك لا تستطيع الاستيلاء تماما على الإنسان لتجعله أسيراً لها، لأنها هي نفسها لا معنى لها إلا بالغايات النهائية التي يتوخى الإنسان تحقيقها بواسطة الجماعة الخاصة التي ينتمي إليها، فتارة تحتمل الفاعلية السياسية الضغوط الصادرة عن الحضارة القائمة، وطورا تحركها وتعطيها دفعا جديدا إلى الأمام، لذلك فالتبادل الأدبي المستمر بين السياسة والفاعليات الأخرى، ورغباتها المشتركة في خدمة الغايات النهائية لا يخلوان من التوترات والتناقضات، بما أنه يفترض في هذه أن تكون بدورها في خدمة الإنسانية.

أما بشأن علاقة السياسة بالدين فلقد شرحت ذلك مطولا في كتابي الجديد (الخروج من الاستلاب)، وأعتقد أن الاستلاب الأساسي الآن هو الاستلاب السياسي، لأن السياسة متوضعة على صدر الدين، وكما يقول فرويد: (لا نستطيع أن نبني نظريتنا الأخلاقية على الدين، لأن الدين لم يكن يوما خارج إطار السيطرة السياسية، هو دائما فن تضليل الشعوب)، لذلك لا نستطيع أن نبني أخلاقنا على الدين لأنه غير متحرر من السياسة وإنما ينبغي أن نبني أخلاقنا على الفلسفة أو الميتافيزيقا.

* تقول في كتابك (نحو حضارة جديدة): إن لكل حضارة شخصية خاصة وعبقرية أصيلة لا يمكن ردها إلى سواها، وتتجلى هذه الشخصية في مظاهر الحضارة الإنسانية من فن ودين وفلسفة، ما سمات الحضارة الحالية؟

- أبرز ما يميز الحضارة الآنية هو شعور الإنسان بالافتقار إلى التواصل و التعاطف الإنساني، فالإنسان المعاصر يشعر أنه في غربة عن العالم، والعدمية التي يتحدثون عنها في العصر الحديث، هذه العدمية هي في الحقيقة عدمية التعاطف والحوار الإنساني، فإنسان العصر الحالي لا يجد عند الآخر ما يطلبه ولذلك التواصل فاشل على جميع المستويات، حتى على المستوى الجنسي، وهذا ما يؤكده والفيلسوف الفرنسي وعالم النفس هنري لوفيفر.

* أعود إلى الأسئلة التي طرحتها في ذات الكتاب، لأطرحها عليك من جديد، هل الصراع هو من طبيعة الحياة؟ وإذا كان الصراع من صميم الوجود فهل يعني هذا أنه لا يوجد تآلف؟ وإذا وجد فما كيفية وجوده؟

- سأجيبك لكن خارج إطار كتابي السابق، ثمة إشكالية صراع موجودة دوما، لكنها تأخذ عدة مسميات، وبالنسبة لي فأنا لا أعتقد بمقولة «صراع الحضارات» التي أطلقها صموئيل هيغينغتون، لأن الصراع الأساسي هو صراع بين الحضارة والسياسة، فالسياسة في كثير من الحالات تتملص من قيم الحضارة، وتنقض عليها، ولكن تعود الحضارة مرة ثانية وتستولي على سيرورة التاريخ وتخضع السياسة لها، فمثلا طيلة العصور الوسطى كانت الحضارة الغربية متمثلة في الدين، وكانت تشعر أنها هي المهيمنة وهي التي تملك أفق الحضارة والسياسة ينبغي أن تخضع لها، وبالفعل كانت السياسة خاضعة لها، لكن في مطلع عصر النهضة تحررت السياسة من حضارة القرون الوسطى وتخلصت من الدين، وسيطرة على المسيحية نفسها، وأخذت تفسرها تفسيرا آخر، لكي تلائم الغزو الجديد (غزو العالم)، لكي توائم عصر النهضة وشوق الحضارة إلى التملك.

لذلك دائماً هناك صراع بين الحضارة والسياسة، والحضارات قد تستولي عليها السياسة وتطبعها بطابعها وقد تفنيها السياسة وتوظفها للآخر، والسياسة التي تهيمن على الحضارة ليست السياسة الراهنة، وأحيانا تتحول الحضارة إلى سياسة مثل حضارة الغرب الحديثة مثلا التي تعتبر نفسها حضارة مركزية الذات، ومن حقها أن تستولي على العالم لأنها هي الحضارة التي صنعت وابتكرت وسيطرت على الطبيعة ومن حقها أن تسيطر على الإنسان أيضا.

* تحدثت مبكرا عن الأمركة وكان ذلك قبل 4 عقود، حيث أسميتها في ذلك الوقت (الأمريكانية)، وتقول في هذا الشأن: (إن الأمريكانية ليست عدوة الشعوب المستلبة وحسب، ولكنها عدوة شعوبها أيضا، فهي تعمل على خلق المواطن الهادئ المريح في كل مكان، وذلك عن طريق سلب الأبعاد الحقة وصنع الأبعاد الزائفة، عن طريق إغراق الإنسان في اللحظة الحاضرة بواسطة الجنس والضجيج واللامبالات، كيف تعرف الأمركة في عصرنا الحالي؟

- الأمركة أو الأمريكانية هي: عبارة عن الحضارة الغربية وقد خضعت لإيديولوجيا صهيونية، وهذه الإديولوجيا هي التي تميز الأمريكانية عن الحضارة الغربية عامة، والأمريكانية هي في حقيقتها عبارة عن زخم وثراء فاحش في الأموال وفي الطاقة (طاقة الشعوب) والحركة والتكنولوجيا وغيرها، هذه الطاقة الهائلة هي في الحقيقة طاقة الحضارة الغربية بالإضافة إلى الإديولوجيا الصهيونية التي تعطي الغرب الأولوية على الشعوب.

فالأمريكانية انمحت فيها الفروق بين المسيحية واليهودية، حيث أعفى البابوات أعفت اليهودية من دم المسيح وألغوا الفرق بين المسيحية واليهودية، وهكذا تحررت اليهودية من الإثم القديم أو القطيعة الأصلية الملتصقة بكل يهودي، بل إن أحد البابوات قال: إن كل مسيحي لا يؤمن بأن المسيح يهودي هو ليس مسيحياً، وهكذا ولدت المسيحية الصهيونية التي تقوم على أخوة المسيحية اليهودية، وقد أُقنع الرأي العام الأمريكي بأن الأمريكي ليس مسيحياً خالصاً وإنما هو يستمد مسيحيته من اليهودية وحواره الأصلي معها، وهذا ما برره الإعلام، وعلى أثر ذلك تم دمج المسيحية بالصهيونية، وهذا الدمج هو الذي خلق ما نسميه الأمريكانية التي هي في الحقيقة عبارة عن أمركة مؤدلجة بيهودية، يعني التكنولوجيا الأمريكية إضافة إلى الثراء الأمريكي كله ضمن الإديولوجيا اليهودية التي صاغها البابوات أنفسهم.

* وربما نستطيع القول: إن الأمريكانية أو المسيحية الصهيونية هي التي خلقت ما يسمى (فوبيا الإسلام)، وألصقت تهم كثيرا بالدين الإسلامي من بينها الإرهاب الذي بات يوصف به كل المسلمين في العالم.

- أوافقك الرأي، لكن حقيقة، الحضارة الغربية مدانة أكثر من الحضارة الإسلامية، فالإسلام دين أخلاقي ملائم لطبيعة العصر، والقرآن كتاب معياري يضع معايير لطبيعة عصرنا، وليس مجرد طقوس كما يبرزه الفقه الإسلامي الراهن، وأستطيع القول: إن الإسلام قائم في عالمنا العربي على فقه مزيف، ُزيف في العصور الوسطى وزيفته الأمريكانية فيما بعد، ولكن هذا الفقه المزيف يستر حقائق صارخة بالنسبة للدين الإسلامي، أولها أن الدين الإسلامي هو في حقيقته محاولة للتحرر من العقد، كما أنه عقلاني ومباشر، وهذا ما يؤكده التاريخ، كما أنه يبدو أكثر عقلانية من المسيحية وحضارتها التي أخذت على عاتقها مهمة تدمير الشعوب.

فالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في الحقيقة، هو شبيه جدا بفرويد، فكما أن فرويد قال: (إن منطلق الإنسان هو أن نفهم رغبته وأن نعالج هذه الرغبة)، فكذلك النبي محمد نزل إلى قبو الشخصية الإنسانية، وحاول أن يعالج الرغبة البشرية بتجلياتها المختلفة (الجنسية والمادية وغيرها)، واستطاع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يفضح هذا الكبت أو هذا الصمت أو التآمر على تاريخه، فالتاريخ الإسلامي لا يمكن أن يوصم بأنه لا عقلاني وإنما يجب أن يذكر بميزته الأساسية التي هي قمع الشهوة البشرية، وكلمة قمع الشهوة تحدث عنها فرويد في عصره بقوله: (على الإنسان أن يكافح ضد رغبته)، وقد نفذها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قبله بقرون، وإذا رجعت إلى القرآن وجدت أن ثلثي مساحته تتحدث عن كبح الرغبة وتسييجها، فالإسلام دين عقلاني وواقعي، ولا يستطيع الإنسان أن يتصور أنه دين لا حضاري.

أما فيما يتعلق بإلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام، فأعتقد أن الإسلام لم يكن يوما مرتبطا بالإرهاب، لكنه أحيط بالإرهاب منذ فجر تاريخه من خلال السلاطين الذين جعلوه إرهابا على الرعية، ومن ثم جاء الغرب ليكيل الاتهامات والإدانات له، ولكن الأهم من ذلك أن الإسلام في حقيقته يملك القدرة على فهم الإنسان ومعالجة مشاكله، وهذا يحيلنا مجددا إلى فرويد، حيث قال له أحد تلاميذه: (يتهمنا الناس بأننا لا نعبر عن القيم الروحية الموجودة في الإنسان، وبأننا لم نفعل سوى التعبير عن غرائزه)، فأجابه فرويد: (لم يفعل الفلاسفة سوى التعبير عن روحانيات الإنسان، ونحن نفسنا ضعنا زمنا طويلا في روحانية الإنسان، ولكن جاء الوقت لكي نقول إننا بحاجة إلى أن ننزل إلى قبو الشخصية الإنسانية، ونكتشف أفاعي الشهوة عندها وبذلك نستطيع أن نقول إننا بدأنا نفهم الإنسان).

* في هذا السياق كيف تفسر الأزمة التي أثارتها الرسوم المسيئة للرسول الكريم، هل هي نتيجة عدم وجود فهم للآخر؟ أم أنها تنطوي على كره الغرب للمسلمين؟ أم تدخل في إطار اختبار المسلم وردة فعله حول حوادث من هذا القبيل؟

- أعتقد أن هذه الرسوم هي استفزاز للإنسان المسلم، وهدفها أن تعرف إلى أي حد أصبح المسلم جاهزا للإثارة والاستفزاز وإلى أي حد يمكن إثارته، وينبغي الآن أن نؤكد على أن الإسلام في حقيقته اليوم ليس مالكا زمام نفسه، فالإسلام الرأسمالي هو في الحقيقة من يتلقى الإثارات فيستجيب لها باستجابات فأر الاختبار، لأن الإسلام بصفته الحقة هو الذي يحاول أن يكبت رغبته ويسيطر على ذاته وهذا الإسلام لا حضور له، لأنه لا يوجد الآن إسلام حقيقي سوى الإسلام الرأسمالي الذي تم اختباره سابقا من خلال كتاب (آيات شيطانية) لسلمان رشدي.

من جانب آخر فإن الفيلسوف الإسلامي ليس له مكان الآن، وهو لا يملك حق إدارة الفقه، لأن هذه المهمة تقوم بها المؤسسات الإسلامية، فجامع الأزهر يستطيع أن يخمدني وأن يحكم علي بالصمت أنا وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وغيره، والإسلام اليوم مهزوم أمام هذه القوى الرأسمالية التي لا تستطيع أن تتخلى عن دعمها للإسلام الرجعي لأنها رأسمالية إسلامية.

* ثمة مفهوم ملتبس لدى عدد كبير من المفكرين العرب هو مفهوم الهوية الذي يربطه البعض بالتاريخ واللغة المشتركة، في حين يكتفي البعض الآخر باللغة كدليل على الهوية الواحدة، غير أنك تتبني تعريفا مختلفا لها في كتابك (إعادة إنتاج الهوية)، والسؤال: كيف تعرف مفهوم الهوية؟ وما هي كيفية إعادة إنتاجها؟

- الهوية هي عبارة عن توضيح مفهوم جماعة إنسانية، أسوق لك مثالاً: أنا كنت في بداية حياتي (قومي سوري)، وكنت أعرف الهوية بأنها (الارتباط ببلاد الشام أو سوريا الطبيعية)، ثم اكتشفت في أحد الأيام أنني خارج مفهوم الهوية القومية كما تلقيتها في كتب علم الاجتماع والأخلاق والأدب والتاريخ وكل مجالات الثقافة العربية، وشعرت بأن هويتي ليست هنا وهكذا انسحبت من الحزب وانتميت إلى حزب البعث، لكني شعرت فيما بعد بأن حزب البعث لا يمثل أيضا الهوية القومية، لأنه عبارة عن هوية مصنوعة وليس هوية تمسك بمفاصل الواقع، هو عبارة عن إعادة الشعوب أو الإمساك بها بهوية نظرية بحتة لا تمثل الواقع، مثلا عندما نقول إن العرب يتكلمون لغة واحد إذا فهم أمة واحدة، لكن على هذا النحو لم نقدم مفهوم الهوية كما هو أو كما يجب أن يمسك بمفاصل الواقع.

لذلك أعتقد بأن العرب لا يملكون سوى هوية ثقافية هذه الهوية الثقافية هي اللغة والأدب والثقافة عامة، وبذلك تكون الثقافة هي جذر الهوية، لذلك فالهوية تؤخذ من الواقع الثقافي للشعب، وبمقدار ما يكون هذا الواقع الثقافي غنيا بمقدار ما تغتني الهوية، في حزب البعث مثلا كنا نقول: (أمة عربية واحد ذات رسالة خالدة)، لكن هذا الشعار نفسه كان بحاجة إلى إنارة أفضل، لم نكن قادرين على أن ننير الهوية ابتداء من الواقع، بما أن العرب يتكلمون هذه اللغة فهل هذه اللغة هي التي صنعت الهوية العربية؟ أم صنعتها أشياء أخرى أيضا كالدين والتاريخ المشترك، لذلك اقترحت يوما في الحزب القومي السوري أن نقول: (سوريا للسوريين والسوريون أمة تامة)، فاحتج المسؤولون في الاجتماع على هذه العبارة، لأنه إذا قلنا ذلك فإن السوريين ليسوا أمة تامة.

لكني شعرت حينها بأن سوريا بحاجة إلى أن تجد مفاصل في الواقع لنفسها ولروابطها مع العرب، ولكن هذه الروابط لا تؤخذ من الواقع وإنما تؤخذ من مفهوم أشمل هوالثقافة القومية، فالثقافة القومية هي الهوية في صورتها النظرية، أما الهوية كما هي في الواقع، هي هوية سياسية، وأنا أميل إلى توضيح المفهوم بهذا الاتجاه، فالهوية السياسية هي توضيح ما هي الإمكانات السياسية التي يملكها العربي للتواصل مع العربي الآخر؟

هذا السؤال يؤدي بنا إلى سؤال أساسي هو ما هي الإمكانات الأساسية للتواصل مع الثقافة العربية؟ وما هي الروابط الثقافية بين العرب؟ وإلى أي حد تتناقض هذه الروابط الثقافية مع الواقع الراهن، هذا يعني أن الهوية ليست حاضرة دائما أو ليست حضور مستمر، وإنما الهوية في الحقيقة هي محاولة للإمساك بالبنية الثقافية التي تمسك الشعب.

أما كيفية إعادة إنتاج الهوية فتكون من خلال البحث عن المفاصل الأساسية فيها، مثلا في كتابي إعادة إنتاج الهوية لم آخذ الهوية على أنها مطلق كما كانت الهوية في الحزب القومي السوري وحزب البعث، فكل شعب يصنع هويته ويعيد إنتاجها باستمرار، وهذه الإعادة المستمرة للهوية تكون من خلال اللغة ومن خلال التواصل مع الثقافة، وأود أن أشير إلى أحد المفكرين العرب الذي يؤكد أن (الهوية تاريخية وليست مطلقة) مناقضاً بذلك المفكر زكي الأرسوزي الذي يعتبر أن الهوية شيء مطلق في تاريخ الشعوب، وأن الهوية موجودة في بنية اللغة نفسها ولديه كتاب في هذا الشأن، لذلك أعتقد أن هذا الانفتاح في الهوية هو ما يجب أن نلح عليه، أي أن تستمر الهوية في إعادة إنتاج نفسها باستمرار، ولا بد لها من الحوار الدائم مع الواقع، وبمقدار ما نستطيع أن نتحاور مع الواقع فنحن في طريقنا إلى امتلاك هويتنا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة