من يتابع الساحتين الشعريتين الفصيحة منها والعامية يلحظ اهتمام الأولى بالنتاج المقروء بشكل أكبر من النتاج المسموع بعكس الثانية، فما سر ذلك؟ هل هو لكون جمهور الفصيح من النخبة المثقفة التي تفضل ثقافة التدوين على ثقافة المشافهة؟ أم لأن الشعر الفصيح الحديث يتسم كثير منه بالغموض فلا يكاد يفهم إلا بقراءة متأنية لا بسماع عابر؟ هل تسهم الدواوين الصوتية في توسيع دائرة جمهور الشعر الفصيح؟ هذه الأسئلة طرحتها على مجموعة من الشعراء فكانت هذه الإجابات.
أمر طبيعي
د.عبدالله الفيفي قال: الأمر الطبيعي أن يكون الشعر العاميّ صوتيًّا سماعيًّا. على أن ظاهرة الدواوين الصوتيّة ليست سوى تقنية واحدة من تقنيات نشر الشعر العاميّ اليوم، فلقد ساد طوفان اللهجة وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، وطغت مساحة الشعر اللَّهَجي على الشعر الفصيح في السنوات الأخيرة، فيما كان الطبيعي أن يبقى ذلك الشعر شفاهيًّا لا مكتوبًا. بل ها نحن اليوم لا نكتفي بارتدادنا عن ثقافة الكتابة إلى ثقافة المشافهة، وعن الثقافة العالِمة إلى الثقافة العاميّة، ولا بكتابة الأدب اللَّهَجي الشفهي، بل هناك محاولات أيضًا لإدخال اللهجات عصر الإلكترون وبرمجيّات الحاسب الآلي العالمية! وفي ذلك خطورة -لا ينكرها إلاّ مكابر- على لغتنا العربيّة وثقافتنا الحضاريّة.
وأضاف الفيفي أن الإنتاج العاميّ ولد شفهيًّا، يُلقى ويُسمع، وكان من الخير له وللفصحى أن يبقى كذلك. وعليه فما يحدث من نشره صوتيًّا هو الأصل، لا نشره مكتوبًا، مع ما لا يخلو منه الأمر -حتى في نطاقه الصوتي- من ترسيخ قِيَم اجتماعية وأذواق عامّة وثقافات ضيّقة قد لا تتفق وما ننشده من ارتقاء لا ارتكاس.
أمّا الشعر الفصيح فبعكس ذلك. فلقد قطع أشواطًا واسعة في كتابيّته، وأخذت القصيدة -منذ أبي تمام من حداثيي الشعر القديم- تعوّل على مخيّلة القارئ أكثر من أذنه، كما جعلت القصيدة الحديثة تتكئ إلى ذلك على الإيقاع البصري في النصّ. بل هناك اليوم ما يعرف بالقصيدة الإلِكترونيّة التفاعليّة، وهي قصيدة معتمدة على التقنية والسماع والمشاهدة عبر الإنترنت. وقد بدأت مع مفهوم (النص المترابط Hypertext)، منذ استعمله للمرة الأولى (تيد نيلسون 1965)، يردفه مفهوم (النصّ الإنترنتّي Cyber text)، الذي كان أوّل من استعمله (آرسيت Espen J Aarseth). ولي دراسة في هذه التقنية الشعرية الجديدة بعنوان (نحو نقدٍ إلِكترونيّ تفاعليّ)، أُبيّن فيها ضرورة تلقٍ جديد، حيث إن المتلقي سيكون بحاجة إلى (قراءة إلِكترونيّة تفاعليّة)، تضاهي طبيعة القصيدة الإلِكترونيّة التفاعليّة، وإلاّ كان تلقّيه تقليديًا لنصّ غير تقليديّ ولا مألوف، ولا مهيّأ لمعظم المتلقّين متابعته، إلاّ في نطاق نخبويّ ضيّق. ذلك ما يجابهه المطّلع على تلك القصيدة، ولا أقول القارئ؛ لأن العمليّة في تلقّيها لم تَعُد قراءة نص فقط، بل هي تفاعل مع ضروب فنّيّة مختلفة، من: نص، وصورة، وموسيقى، فضلاً عن الإيقونات، والروابط التصفّحيّة، واللوحات الإلِكترونيّة.. إلخ. إنها شجرة نصوصيّة إلِكترونيّة، تذكّرنا -مع الفارق- بفنّ (التشجير الشِّعري) الذي عُرف في التراث العربي خلال القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، أو بالشِّعر الهندسي، المختلَف في تأريخ ظهوره. وهذا الشكل من الشعر لا يشتغل على البنية الداخليّة للنصوص، ولا على التأثير العروضي أو الصوتي، بمقدار اشتغاله على طريقة عرض النصوص. ويمكن القول إذن: إنه وريث محاولات تفاعليّة شعريّة سابقة، تظهر في تجارب بعض الشعراء المحدثين، وذلك محاولة منهم لإحداث ضروبٍ من الحواريّات النصوصيّة. وهناك غير اسمٍ شعري خاض مثل هذه التجربة عبر مجموعات شعريّة كاملة، يمكن أن يشار منها مثلا إلى: الشاعر علي الدميني- من السعوديّة- في مجموعته الشِّعريّة بعنوان (رياح المواقع 1987)، التي أفاد فيها من بعض الأجناس الأدبيّة والفنيّة الأخرى، ومنها الفنّ التشكيلي، منتقلاً من (الاستعارة-القصيدة) إلى ما أسميتُه في مقاربة سابقة ب(الاستعارة-الديوان). وكذا فعل الشاعر علاء عبدالهادي، من مصر، في مجموعته الشعريّة (مهمل.. تَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِظِلّ 2007)، وغيرهما. موضحاً أنه تطرّق إلى تجربة هذا الأخير في دراسة له بعنوان (النصّ الغابة). إلاّ أن تلك التجارب إنّما كانت تحاول ما تحاول على الوَرَق، في حين تخطو تجربة القصيدة الإلِكترونيّة التفاعليّة، كما في قصيدة الشاعر العراقي مشتاق عبّاس معن، بعنوان (تباريح رقميّة لسيرةٍ بعضها أزرق -المنشورة على موقع (النخلة والجيران) الإلِكتروني- إلى نوعٍ جديد، يتخاطب مع العين والأذن مباشرة، وعبر تقنية العصر الإلِكترونيّة. إننا هنا في الفصيح إذن مع عالم مختلف، وبإزاء محاولات مباينة تمامًا (للدواوين الصوتية في العامي)، تستهدف تقديم النصّ الشِّعريّ إلى جيلٍ ما عاد يسمع الشعر، أو يتعامل مع الوَرَق، ناهيك عن أن يَفْرُغ لقراءة ديوانٍ شعريّ أو سماع شاعر منبريّ يستدرج الجمهور إلى سماع عصمائه. وفي هذا مسعًى لنَقْل الشِّعر بطريقة مدهشة، وطريفة، تتواصل مع مختلف حواس المتلقّي، وعبر حساسيّة إنسانيّة راهنة في التعبير والتلقّي، ضمن منظومة تؤذن بنهايات عصر المدوّنات الورقيّة، أو على الأقل بوضعها على الرفّ، مفسحةً الميدان واسعًا لنوافذ إبستمولوجيّة لا نهائيّة، بفضاء العالم أجمع.
وخلص الفيفي إلى أن المسألة بين الشعر العاميّ والفصيح في هذا المضمار تأتي عبر سياقين ثقافيين مختلفين: شفاهي/ سماعي، وكتابي/ تأمّلي. على أن الشِّعر العربي بعامّة يظل صوتيًّا، ولو عبر المخيّلة، وإن اتّخذ مسالكه الأخرى وأفاد من تقنيات إضافيّة؛ وذلك لارتباطه الجذري بطبيعة اللغة العربيّة الموسيقيّة. ومن ثَمّ تظلّ القِيَم الصوتية حاضرة فيه: عروضًا وإلقاءً، ومهمة في أثره: إبداعًا، وتلقيًا، ورواجًا.
الثقافة المدونة أبقى
أما د.عبدالله الرشيد فقد أجاب بأنها ليست نادرة عند شعراء الفصحى، وأنه يعرف من خلال متابعة غير شاملة أن بعض الشعراء أصدروا دواوين مسموعة أو أُصدرت لهم مثل عبدالله البردوني ونزار قباني وفاروق شوشة وغازي القصيبي.
كما أكد على أن الثقافة المدونة أبقى، ولكن هذا لا يمنع من المشاركة في هذه الظاهرة بوصفها قناة تواصل جديدة، وقد يكون لذلك أثر في هذه القلة لا الندرة.
وأضاف أن كون الشعر مسموعاً ليس مانعاً لسامعه من التدبر والتأمل.
كما دعا الرشيد شعراء الفصحى إلى إصدار دواوينهم مسموعة؛ فذلك أدعى لنشر ثقافة تذوق الفصحى، وتوسيع دائرة المهتمين بها -على حد قوله-.
وعن تجربته في هذا المجال قال: (أصدرت ديواناً صوتياً عام 1421هـ، بعنوان (راحل في المدى)، ونال قبولاً جيداً، وقد أخبرني بعض المهتمين بتدريس الشعر الحديث أنه استعان ببعض القصائد فيه، كما استعان بديوان القصيبي المسموع (الحمى) في التدريس، فأسمعهم بعض القصائد، وقال إنه لاحظ تفاعلاً جيدا من الطلاب مع ما سمعوا).
وأضاف الرشيد أن مشكلة الديوان المسموع أنه في حاجة -كالديوان المطبوع- إلى إنتاج جيد، وتسويق مشجع، وكانت تجربتي مع الجهة التي أصدرت ديواني غير مشجعة، فلم يكن هناك دعاية ولا تسويق جيد. كما أعرب عن أننا بحاجة إلى أن تتبنى جهات رسمية إصدار دواوين صوتية، كوزارة الثقافة أو الأندية الأدبية، كما أن دور النشر المشهورة مدعوة لتبني هذه الإصدارات ورعايتها؛ حتى يلمس المجتمع أثرها.
ثقافة النجومية
الشاعر إبراهيم الخريف رأى أن الشعر العامي يمثل نموذجاً من نماذج الحياة المعاصرة مثله مثل طريقة اللبس والمسكن والمواصلات والاتصالات وغيرها...كلها عنوان لطبيعة حياة مختلفة عن سابقتها, وبالتالي يعد انتشار الشعر العامي أو تحوله إلى ظاهرة أمرا طبيعيا وحتميا, تفرضه طبيعة الحياة نفسها.
وانحسار انتشار الشعر الفصيح مقارنة بالعامي هو أيضا أمر حتمي وطبيعي للأسباب ذاتها.
مضيفاً أن الشكوى من هيمنة الشعر العامي على الساحة الشعرية مرفوضة وغير منطقية لأنها تخالف إفرازات الحياة الطبيعية, وأن هناك من يبث نفس الشكوى من تلك الهيمنة وهم المعنيون والمتابعون للأناشيد الإسلامية، فالأناشيد باللهجة العامية صارت من فترة ما مهيمنة على أبرز وأكثر الإصدارات ولها متابعون كثر وبالتالي تحقق إقبالا كبيرا مقارنة بالأناشيد الفصيحة.
ومما يزيد الأمر تعقيدا وانحسارا بالنسبة للشعر الفصيح -كما يرى الخريف- عوامل تفرزها أيضا طبيعة الحياة التي نعيشها وأبرز تلك العوامل هو البحث عن الشهرة والمال, وهذان العاملان بالذات مرتبطان بشكل كبير وبشكل مطرد وعكسي ببعض المجالات والأنشطة الإنسانية مثل الأغاني على سبيل المثال، فكيف لو ربطناها (بمغذيات) أخرى قوية مثل التعصب القبلي والوجاهة والمكانة الاجتماعية والقنوات والمجلات المتخصصة والأمسيات المكثفة ومثل بعض المسابقات المتخصصة أيضا في الشعر العامي. كلها مغذيات ذات مفعول قوي ومؤثر في امتداد سطوة الشعر العامي على حساب الفصيح، والمكاسب والمنافع المترتبة من ورائها من الواضح أنها لا تتأتى لشاعر فصيح (من دون تعميم طبعا)، وأن المنافع والعوائد من وراء إصدار ديوان شعر صوتي لشاعر فصحى لا يمكن أن تقارن بالعوائد من وراء إصدار ديوان صوتي عامي من دون الارتكاز على حالات استثنائية، شأنها شأن الدواوين المطبوعة لكلا الفريقين.
وأفاد الخريف بأننا لو تأملنا في دواوين الشعر العامي المسموعة لتبين لنا أن أغلب شعرائها ينتمون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى الوسط الإعلامي والغنائي تحديداً، وبعض القصائد التي يتضمنها الديوان الصوتي مغناة من قبل بعض المطربين، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى سهولة الإقبال والانجذاب إليها مما يعطيها انتشارا مرضيا لأصحابها، ولو أن شاعر فصحى مشهوراً أصدر ديوانا صوتياً لوجدنا إقبالاً مرضياً على ديوانه, والسر في ذلك يعود إلى ثقافة النجومية التي تهيمن على عقول أغلب الناس مما يجعل التسويق من خلال هذه الثقافة سهلا وميسرا وأبلغ نتائج وأسرع.
هذا يعني أن الاستسلام أو الاكتفاء بالاعتراض أمر مرفوض تماما ومحاولة إقصاء أو محاولة التقليل من قيمة ومكانة الشعر العامي أمر مرفوض أيضا، والمواجهة الإبداعية هي المطلب وهي التي ستحقق التوازن في هذه الحياة، وإصدار ديوان صوتي فصيح هو أحد وسائل المواجهة الإبداعية التي تساهم في ترسيخ هذا المبدأ واتساع رقعة الشعر الفصيح، ولكن ليس على الوجه المأمول لأن هناك وسائل أعظم تأثيراً وأبلغ، ولو أن هذه الدواوين أصدرت من ضمن منظومة متكاملة لدعم الأدب الفصيح تشترك في تلك المنظومة الأجهزة الرسمية وغير الرسمية، الأفراد والمنظمات ذات العلاقة بالمشهد الثقافي لكان لإصدارات الدواوين الصوتية الفصيحة أثر أكبر بكل تأكيد.
وأضاف الخريف أن الشاعر الفصيح الذي يبادر بإصدار ديوان مسموع يستحق التقدير والإعجاب لأنه يعد مغامرا وقنوعا ويجب أن يكون كذلك متمنياً أن يكون ذلك الرجل.
وأوضح أنه من الظلم أن ننعت الشعر الفصيح الحالي بالغامض ونعمم هذا الوصف, ومن الظلم أيضا أن نجعل هذا الغموض السبب الرئيس أو حتى من أسباب العزوف عن الدواوين الصوتية الفصيحة، مبيناً أن هناك نوعاً من الشعر الفصيح يتسم بالغموض لكن هذا النوع لا يمثل الكل, ولا يمنع حتى من أن يكون هناك إصدارات لشعراء يتسم شعرهم بالوضوح، وحتى الشعر الذي يتسم بالغموض لا يمكن أن يعيق غموضه إصدار ديوان صوتي نظرا لوجود خاصية التحكم في الإعادة التي تتيح للمستمع المراجعة المتكررة لما يسمع.
وخلص إلى أن الشعر بنوعيه العامي والفصيح هو نتاج ثقافة وليس العكس، فإيجاد ثقافة تنتج ما نريد وتقلص ما نريد هو أمر غاية في الأهمية ولا يقبل التأجيل.
سيادة الذائقة الشعبية
د.علي الرباعي قال: (لا شك أن الذائقة الشعبية هي السائدة على مساحة كبيرة من وعينا واهتمامنا كشعب محدث النعمة وخارج من رداء القبيلة وحلبة العرضة والقلطة والخطوة والرقص على أنغام العرضة النجدية ولهذا وجد شعراء النبطي والشعبي جمهورا مهيئا بفطرته لقبول ما ينتجون بل والتهافت عليه لسهولة التعاطي مع المنتج وإمكانية حفظه وترديده والحضور بروايته في المناسبات والولائم وسائق التاكسي والمزارع والراعي يطربون لخلف بن هذال أكثر من طربهم لنزار قباني ولست ممن يقلل من شأن النبطي والشعبي الرصين كونه يتضمن من الحكمة والوصايا والغزل والتجربة الإنسانية ما يرقى بالذائقة وينفس عنا في لحظات الاختناق).
وعن نخبوية متلقي شعر الفصحى وعلاقتها بقلة دواوين شعراء الفصحى أضاف الرباعي أن النخبوية واردة إلا أن تجربة نادي حائل الجليلة والجميلة حظيت باهتمام ومتابعة واسعة وديوان محمد العلي الصوتي متداول بين المثقفين بوله وشوق وسيصدر النادي قريبا دواوين مسموعة للصيخان والثبيتي كما سمع، وأن هذا مما يحمد للنادي والقائمين عليه لاقتناصهم فرصة التجديد والمصافحة بالمدهش.
كما أكد الرباعي أنه لا يمكن أن يكون الفصيح عائقا فالناس تطرب للجميل وحسب وأنه لا يجنح إلى أن الغموض من خصائص الفصيح فالغموض حالة تتلبس النص أو قائله بصرف النظر عن الطريقة المتبعة في النظم والشاعرية.
وختم الرباعي إجابته بأن جمهور الفصيح حاضر ومتوفر بشرط أن يقدم له ما يرقى لذائقته والعبرة ليست بالجماهيرية لأنها ليست لعبة كرة قدم بل نحن في مناخ وفضاء فني ومعرفي تكتنفه معوقات وإشكالات وتتربص به أعين الناقمين قبل نظارات الناقدين.