Culture Magazine Monday  04/02/2008 G Issue 232
فضاءات
الأثنين 27 ,محرم 1429   العدد  232
 

حوار المتاهة وعلاقات التشظي
نظرة للحداثة العربية في مرآة انفتاحها على الآخر

 

 

يقول (تاغور): (إني على استعداد لأن أفتح نوافذي في وجه الرياح، لكن شريطة ألا تقتلعني هذه الرياح من مكاني) (1)

أردت بهذه المقولة الإشارة إلى الإشكالية النقدية المعاصرة التي يمارسها كثير من نقاد العرب المعاصرين وهم يتعاملون مع المناهج الحداثية، تلك المناهج التي لُقحت وأخصبت في أرض بعيدة عنا ووسط أجواء (ابستمولوجية) تختلف عن خلفياتنا الثقافية والمعرفية بدءا من الأسلوبية فالبنيوية وانتهاء بالتفكيكية، هذه المناهج يرتبط وجودها ونشأتها بظروف سياسية واجتماعية وفكرية وفلسفية دعت لظهورها، وقد وضع أصحاب تلك المناهج أسسا لمناهجهم تكاد تتفق مع محيطهم الثقافي ومع علاقات النص الأدبي الحديث.

وسرعان ما تسرب ماء تلك المناهج ليختلط بزيت التجربة العربية المعاصرة في ظل الانفتاح اللا مشروط الذي شهدته الدوائر الفكرية العربية على غيرها من الغرب، وانقسم النقاد العرب المضِّيفون للمناهج إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: سكت عن مضامينها الفلسفية وبدأ يأخذ خيطا من كل منهج يرتبط بالنص العربي ليشكل مجموعة علاقات نقدية سُميت بالقراءة التحليلية.

القسم الثاني: حاول تجريد المنهج الغربي من المضامين الفكرية والفلسفية، وإعطاء المناهج صبغة عربية تكاد تتماشى مع المعرفة الثقافية العربية، ولكن حدث الصدام بين المحتوى المفرَّغ والآلية المكتسبة عند التطبيق.

القسم الثالث: هو الذي آمن بالمقدس ولفظ ما دونه من علاقات تحاول نسفه أو الاقتراب منه، هذا القسم مارس طقس (قتل الأب) وبدأ يحتفي بعلاقات البنوة المشوهة، والمقصود أولئك النقاد المعاصرون الذين احتفوا بالنموذج الغربي دون فهم واضح لمعالمه وإجراءاته فحدثت المتاهة التي أشار إليها الدكتور الجراري حين قال: (ونحن حين ننظر في محاولات نقادنا في المرحلة الحديثة المعاصرة نجد أنهم سعوا إلى التوسل ببعض مناهج النقد الجديد التي أعطت ثمارا كلية أو جزئية عند الغربيين، ولكن سعيهم لم يتجاوز التجريب الذي يتيح له أن يتم دون الوقوع في الخلل، وهو خلل مرده إلى أن التطبيق لم يكن متقنا وسليما، وما كان له أن يأتي على الوجه الأنسب بسبب الاختلاف الذي يمس نوع المعطيات، ومدى تأثيرها حين تكون مستخلصة من بيئة ويحاول إلصاقها ببيئة أخرى (2)

ووقع كثير من النقاد في دائرة الاضطراب والتناقض، فنرى على سبيل المثال الدكتور محمد مندور في كتابه (في الميزان الجديد) يقول: (عندما نريد درس الأدب العربي يجب أن نكون من الفطنة بحيث لا نحاول أن نطبق عليه آراء الأوربيين، وقد صاغوها لآداب غير آدابنا (3).

وقبل هذه المقولة يدعو إلى الانفتاح على الثقافة الغربية، واعتبار الآداب الغربية غذاء روحيا لنا لذا فيجب مجاراة التفكير الأوربي.

وهذا التناقض والاضطراب يعود سببه إلى عدم الفهم الكامل لتلك المناهج، والرغبة العارمة - لدى الكثيرين - في الوصول إلى الشهرة وإثبات الذات في ظل التدفئة الموقوتة في عباءة الغرب.

وارتباطا بالحضارة (المثال) التي عملت على السيطرة على الحضارات الأخرى، فالحضارة الصناعية الغربية تصبو إلى التوحيد لتهيمن على الحضارات الأخرى، فتبدو كأنها كونية عالمية، أو قل (علمية) بما أنها تقنية صالحة لكل زمان ومكان، أصبحت الحداثة تعني إذن محق الاختلافات والتغيرات والتجدد، تعني توحيد نمط العيش بحسب أنموذج الحياة الغربية، تعني إقحام الحضارات المختلفة إقحاما - باسم التنمية - في اتجاه واحد هو اتجاه الحضارة الصناعية الرأسمالي والاشتراكي. حشرت فكرة التقدم إذن الشعوب ذات الحضارات المختلفة في بوتقة الاستعمار الغربي باسم الثقافة (4).

وقد أشار الناقد محمود أمين العالم إلى منحى خطير يخلق نوعا من التشظي المعرفي، وقد يصل إلى التشتت العقائدي؛ إذ يرى أن مختلف الاتجاهات في نقدنا العربي الحديث والمعاصر - عامة - هي أصداء لتيارات نقدية أوربية، وبالتالي فهي أصداء كذلك لما وراء هذه التيارات من مفاهيم (أبستمولوجية) و(أيديولوجيات) (5).

في الحقيقة ان حداثتنا العربية تحتاج إلى نوع من الجرأة، جرأة حازم القرطاجني الذي وقف في القرن السابع الهجري رافضا للقواعد النقدية التي أقامها أرسطو في كتابه (فن الشعر) وقال إنها لا تصلح للأدب العربي لأن الفيلسوف اليوناني اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونان فيه (6).

لا نريد ترديد قول طه حسين: علينا أن نسير سيرة الأوربيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحَب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب... وان نُشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوِّم الأمور كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها (7).

نحن نحتاج إلى نوع من التفهم الكامل للمناهج الغربية، فنحن لا نرفض تلك المناهج، ولا نقيم الحجر عليها، فقد أفاد النقد العربي كثيرا منها، وإن لم يستطع كثير من النقاد تطبيقها على النصوص لافتقاد الآليات النقدية الإبداعية التي تؤهلهم لذلك، فقد اكتسبوا مهارة إعمال الفكر لإنتاج قراءات جديدة تختلف عن القراءات المدرسية للنصوص.

ولكن هذه المناهج - تحت مظلتنا العربية تحتاج إلى غربلة، ووضع أسس منهجية عربية تتفق مع الأنساق المعرفية والثقافية أولا، ومع اتجاهات النص الحداثي العربي ثانيا، وقد ظهرت الكثير من المحاولات العربية لنقادنا المعاصرين التي تتبنى هذا الاتجاه وعلى رأسهم كتابات كمال أبي ديب، وصلاح فضل، وعبد العزيز حمودة، وعبد الغني باره.. وغيرهم

ولكن ما زالت الساحة النقدية العربية المعاصرة متعطشة لحوار نقدي مع تلك المناهج؛ حوار يُخلع (دريدا) عباءته التفكيكية ويعري منهجه للوصول إلى جماليات التفكيك في ظل المنهجية العربية، حوار يفيد من فلسفة الشك عند (ديكارت) و(نتشيه) ويبتعد بها عن الاتجاه العقدي، ويسيرها لتخدم النص الأدبي، حوار يخلق ربطا بين (دي سوسير) وأعوانه، وحازم القرطاجني لإنتاج نظرية لغوية نقدية تدرس جماليات النص، حوار عربي يخرج لغة النص من سجنها البنيوي إلى فضاء أرحب يتيح للقارئ الناقد حرية في إنتاج أكثر من قراءة واحدة لدلالة النص فيما يخلق شراكة مع مصطلح الجماعة المفسرة الذي أطلقه (فيش).

ولكن الأخذ يكون مقننا ملتحفا بالرداء العربي، حتى نستطيع أن نقول إننا واقفون على عتبات التنظير النقدي لنظريات نقدية عربية خالصة تمثل وجداننا، ونتمثل برداء أمتنا الإسلامية في أزهى عصورها عندما أخذت من الآخر التراث العلمي وابتعدت عن الأدب الإغريقي، وذلك لغاية واحدة وضحتها الدكتورة عائشة عبد الرحمن في قولها: إن الأمة الإسلامية أخذت ما أخذت من التراث العلمي للأمم القديمة لأنها أرادت أن توسع من آفاق معرفتها وتخصب عقليتها، ولكنها تجافت عن الآداب كراهة أن نستعير وجدانا أجنبيا (8).

إننا لا نريد أدبا مستوردا، ولا نريد أن توصف ساحتنا النقدية بالعجز عن إخراج نظرية نقدية تصلح لقراءة النص الأدبي، فقد قيل إن أدبنا مستورد، لا توجد لنا نظرية نقدية عربية يمكن أن تسهم في ركب التطور والحضارة، نعم لأن الأدب الذي يكتبه أدباؤنا مستورد، ومقاييسه بالتالي مستوردة (9).

هذا ما جعل الحداثة العربية تقع في حوار المتاهة، وغدا الإفصاح عن المسكوت عنه يمثل علاقة طردية لا تكاد تتناسب مع السائد، بل تجرح الشعور الأوحد الذي يرتبط بالمقدس، ولا يستطيع مجافاته، ولا يستطيع أحد أن يلغي الاتصال بالآخر أو أن ينكر الفيض العلمي الذي نهلت منه الثقافة العربية، ولكن من حقنا أن يكون لنا أدب عربي ونقد عربي يفيدان من الآخر ولكن لا يمثلانه.

هوامش

(1) عبد العال بو طيب: إشكالية المنهج في الخطاب النقدي العربي الحديث - عالم الفكر - م23،ع 1، الكويت - ص 456

(2) عباس الجراري: خطاب المنهج - منشورات السفير، المغرب، ط1، 1990، ص 20

(3) محمد مندور: في الميزان الجديد - دار النهضة، القاهرة، مصر، 1973، ص 178

(4) فتحي التريكي، رشيدة التريكي: فلسفة الحداثة - مركز الإنماء العربي، بيروت، 1992، ص31

(5) نقلا عن عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة - المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت - ط1 - 1999، ص 56

(6) حازم القرطاجني: منهج البلغاء وسراج الأدباء - تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجه، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1981، ص 68

(7) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر - 1938، ص 41 - 44

(8) عائشة عبد الرحمن: قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر - دار المعارف، مصر، 1970، ص 189

(9) جريدة الأخبار المصرية - الصحيفة الأدبية، العدد الصادر بتاريخ 1-4-1981

* أستاذ مساعد (قسم اللغة العربية) - كلية الآداب - جامعة الملك سعود emad2006516@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة