Culture Magazine Monday  04/02/2008 G Issue 232
فضاءات
الأثنين 27 ,محرم 1429   العدد  232
 
وما زال ينبض..!!
سارة عبد الله الزنيدي

 

 

كل شيء يسير بهدوء.. حتى الهدوء نفسه متناسق وغير ممل. لم يعتد على هذا من قبل ولا يدري إن كان سبب روعة الهدوء هو امتزاجه ببعض من الدهشة. يحدث نفسه بحذر:

- لن أضيع هذه اللحظات الجميلة بالتحليل الثقيل.

يقول صاحبه بنبرة يملؤها الحنين:

- انتقلنا إلى هذا البيت بعد أن ولدت أختي الصغرى.

الشعور بالغيرة يحاول إفساد هذه المزيج المعتدل النسب، فهو من يعتقد أن المؤامرة هي من جلبته إلى هذه البقعة، وسخرية الحياة هي من أخفت عن صاحبه، إنه ولد في منزل الطين المقابل.. ها هو صاحبه يتحدث عن البيت الصغير المزدحم مرة أخرى.

يحدث نفسه وهو يتحسس الباب الخشبي:

- أقسم بأني رأيت هذا المشهد من قبل..

يغوص أكثر في ذاكرته.. أخيراً يكتشف أن ذاك كان مقطعاً مشوهاً لا غير..!.

كل هذا يحدث وصاحبه ما زال يمجد ذكرياته القديمة

- كان أبي يقول (نحن في هذا البيت مثل ازدحام الدم في القلب..).

أخذت الغيرة تتحول ببطء إلى نوعٍ من الحسد، حتى النظرات المنفرة التي يرميها المارة تدلل أكثر على مقدار الكره الذي يكنه له المكان.

فجأة يتحول الهدوء إلى ضجيج.. إلى ألوف من الوجوه الغاضبة: (لقد هربت.. خدعتك الدنيا.. أنت جبان! أنت جبان !). حتى نفسه تستصرخ رحمته: (غادر المكان.. أهرب)..

- لا.. لن أهرب مرةً أخرى !.

يجفل صاحبه من صرخته الثائرة، ويصمت متأملاً علامات الخجل والتعب المرتسمة على وجهه. يسند ظهره على جدار الطين ويقول وقد ملأت التعابير الجنائزية وجهه:

- ذاك بيتنا.. وما زال (ينبض)..!.

يرتفع صوت المؤذن منقذاً الاثنين من هذا الموقف القاسي. يتنهد الأول ويتبعه الثاني بخشوع (حقاً لا إله إلا الله). بعد الصلاة يمسك المشتاق بيد الهارب ويسير به في أحد الأزقة الضيقة، يقف قليلاً ويستكشف المكان بروية

- انظر إلى هذا الجدار.. إقراء هذه العبارة.

يقترب الهارب أكثر ويقرأ (إني هنا ومعي جذورُ طفولتي وكنوز أحلامي ومسكُ دَواتي).

تشل الصدمة حركته ويعجز عن النطق، يهزه صاحبه بقوة:

- الحي يقرأ هذا البيت منذ عشر سنوات! وأنت يا مسكين تعجز أن تسكنه!

تذكر الهارب الآن هذا البيت الذي كتبه قبل أن يفكر بالهروب بساعات، تذكر حماقته وقسوته.

أجهش بالبكاء كالطفل وصاحبه ما زال يهزه بعنف

- جيد.. أنت تعرف البكاء على الأقل، تصورت بأنك رقم أو قيمة شرائية بليدة !

يمد الهارب يده ويضعها على كتف صاحبه

- أرشدني إلى البيت.. إني تائه.. أريد البيت..

يسير مع صاحبه حتى يصل إلى ذاك البيت الشعبي. يقف طويلاً ويطرق الباب..

يستدير فلا يشاهد صاحبه. بعد دقائق يفتح الباب، ويطل منه رجل مسن، يقبل الهارب يد والده ويبكي بين يديه...

هناك.. وأمام البيت (المزدحم) يقف المشتاق سائلاً نفسه بحسرة:

- يا ترى من يسكن هذا البيت..؟ وهل كان مزدحماً حقاً مثل ازدحام الدم بالقلب..؟

- عنيزة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة