ليست النمرة التي عند زيد أنثى النمر؛ بل هي كساء مخطط يلبسه الأعراب، وليست المشكلة هنا بل في المبتدأ؛ فالنحويون يرون أن (نمرة) وهي النكرة مبتدأ مؤخر وجوباً و(عند زيدٍ) خبر مقدم وجوباً أو هو متعلق بالخبر المحذوف، والأصل (نمرة عند زيد) وإنما وجب تقديم الخبر لأن تأخيره - حسب سيبويه - يجعله يلتبس بالنعت، فالسامع سينتظر الخبر (نمرة عند زيدٍ...!) فما شأن النمرة التي عند زيد؟ ولكن دعونا نتأمل في التركيب، فالظرف متعلق بمحذوف وجوباً؛ فالتقدير (كائنٌ عند زيد نمرة)، أفلا يجعله هذا أخص (أي أقل تنكيراً) من (نمرة)؟ أفلا يستحق بهذا أن يكون هو المبتدأ لكونه عاملاً؟ وعمل النكرة هو المسوغ الخامس من مسوغات الابتداء عند ابن عقيل (1: 218) (رغبة في الخير خير)، وقياساً عليه (كائن عند زيد نمرة)، يمكن أن نقول إذن إن نمرة هي الخبر، وهذا أمر يعضده المعنى؛ لأن الفائدة التي محلها الخبر إنما هي في نمرة، فنحن نعرف زيداً ونجهل ما عنده والجملة حملت لنا الخبر عن الكائن عند زيد وهو نمرة.
* خبراً في اللفظ فهو المخبَر عنه معنى؛ لأن الخبر إذا كان مقدماً ومعرفةً فإن كان في اللفظ خبرَ المبتدأ فإنه في المعنى مخبرٌ عنه؛ لأن التعريف والتقديم يجرّان إليه ذلك المعنى، فكأنك قلت (على زيدٍ دينٌ) إنما قلت (زيدٌ مديان)، وإذا قلت: (في الدار امرأة) إنما أردت: (الدار فيها امرأة). فلذلك حسن الإخبار عن النكرة ههنا في اللفظ، لأنه ليس خبراً عنها في الحقيقة... فكم من مجرور في اللفظ مخبر عنه في الحقيقة). وقول السهيلي قد يعني أن الجملة (في الدار امرأة) جملة متحولة عن أصل أعمق هو الأصل المتعلق بالمعنى (الدار في الدار امرأة)؛ ولكن الاستعمال لا يجيز تكرار الظاهر، فكان الخيار بين طريقتين إما حذف الأولى (... في الدار امرأة) أو حذف الثانية وجعل ضمير في موضعها لأنه لابد للجار من مجرور (الدار فيها امرأة).
وعلى الرغم من وضوح قضية المعنى يتأثر هذا المبتدأ اللفظي بما يتأثر به المبتدأ اللفظي المعنويّ، ونعني بذلك النواسخ الحرفية؛ إذ تنصبه (إنَّ) كما في قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ) «البقرة:248»، وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) «آل عمران:13». وكان على النحويين أن يختاروا اللفظ أو المعنى فاختاروا اللفظ؛ لأنه يحقق لهم اطراد قواعدهم، ولو اختاروا المعنى لتخلوا عن وجوب نصب (إنَّ) للمبتدأ، ولقالوا إنها قد تنصب الخبر أن لم تجد المبتدأ كما أن الفعل يرفع المفعول به فيكون نائباً عن الفاعل حين يقتضي المعنى حذف الفاعل، فيقال (أُكرِمَ عمرٌو). وهم بحاجة إلى القول مع السهيلي أن المبتدأ قد يأتي مجروراً، وهم يعربون الاسم بعد (ربَّ) مبتدأً وإن كان مجروراً، كما في قول امرئ القيس:
أَلا رُبَّ يَومٍ لَكَ مِنهُنَّ صالِحٌ وَلا سِيَّما يَومٍ بِدارَةِ جُلجُلِ