الفضائيات العربية والجامعة العربية وبعض الفنانين مشغولون كثيراً هذه الأيام بمساعدة اللاجئين العراقيين في بلدان الجوار. والإعلام مشغول كثيراً باهتمام الجامعة العربية حيث حال العراقيين الهاربين من جحيم الاحتلال لا يدعو للمسرة ويبدو وكأنه يمس الشرف العربي، فالفضائيات ومقدمات البرامج الحسناوات ومقدمو البرامج العروبيون يرسمون مسحة الحزن والغضب على وجوهم وهم يستصرخون الضمير وتسند كلماتهم بمشاهد من حال اللاجئين في القطر العربي السوري والقطر العربي الأردني والقطر العربي المصري، وعيونهم تقطر دمعاً، بل وتذهب بعض الفضائيات بعمل برامج خاصة في زيارة العائلات العراقية وتقديم هدايا تدمع عيون النساء وتفرح الصغار (بوتو غاز، براد، مدفئة) ويشعر الناس بالإمتنان للقناة ولصاحبها ولأمين عام الجامعة العربية.
عدد اللاجئين العراقيين بعد الاحتلال بلغ حوالي أربعة ملايين لاجئ يضافون إلى ثلاثة ملايين احتوتهم بلدان أوربا وأمريكا وكندا وإستراليا. وبين ثلاثة الملايين أبان حكم الدكتاتور ما يقرب من ثلاثة آلاف مثقف في مجال الأدب والفنون، وبعد الاحتلال هاجر ما تبقى من الفنانين والأدباء.
ذلك يذكرني بالنازحين الفلسطينيين عام 1948م عندما تنادت الأمم المتحدة وشكلت منظمات إنسانية لعب الإعلام دوراً هاماً في الترويج لهذا الموقف الإنساني الذي بدونه كان صعباً على اللاجئين الحصول على الحليب والعدس، وتمكن الإعلام من استقطاب الرأي العام العالمي لحال اللاجئين الذين بلغ عددهم في لبنان حوالي ثلاثمائة وخمسة وسبعين ألف لاجئ، أما الآخرون فتوزعوا بين الأردن وسوريا، ولا زالت واقع اللاجئين يشكل مشكلة لبنانية وسورية وأردنية.
فماذا عمل الإعلام في خضم لتلك الهجرة الفلسطينية. لقد لعب الإعلام وعبر حوارات وبرامج وأفلام وثائقية كثيرة صورت بالأسود والأبيض وبثت من التلفزة وعرضت ضمن الأخبار المصورة السينمائية، تمكن الإعلام أن يلعب دور الاستقطاب ودخل في تفاصيل مشكلات اللاجئين وأوجد حلولاً لحياتهم وأنقذ ربما حيوات كثيرة كان يمكن أن تموت في الطريق. فأنقذ النازحين ولكن فلسطين راحت. ومنذ عام 1948م وحتى اليوم وحتى إشعار آخر لا يزال الحديث عن مخيمات اللاجئين وحل مشكلاتهم الحياتية والإنسانية، ولم يبحث الإعلام عن جوهر المشكلة الفلسطينية، ولم يبحث حقوق الأرض والمواطنة والتأريخ.
اليوم يتكرر المشهد بالآلية الإعلامية نفسها وبنفس الصيغة والسيناريو ولكن بالألوان. يتم تصوير اللاجئين العراقيين بالأبعاد الثلاثة وعلى شرائح ذاكرة الكاميرا وبالبث المباشر وعلى أقمار اصطناعية تخترق أثير الكون وتصل كل البيوت وتؤثر عليهم وقد تدفعهم لجمع التبرعات وتشكيل اللجان المساندة لتقديم العون إلى اللاجئين العراقيين في مخيماتهم وهم لاجئون ليس من الصومال بل من وطن اسمه العراق يغفو فوق بحر من النفط والكبريت والزئبق الأحمر. والإعلام لا يجرؤ ولا يريد وبتوجيه مؤكد أن يتناول حقيقة الأزمة العراقية وجذورها، ولماذا تم احتلال العراق ولماذا يصار إلى محو هويته الحضارية والثقافية ولماذا استهدف رأس العراق ومن هم المستوطنون الذين يحلون محل العراقيين وكيف الحل لكي يستعيد العراق عافيته ويتمكن أن يحكمه أهله ويعيدون بناء الحياة والمعرفة والثقافة ويخلصون الأرض من الأوبئة والأسلحة التي تسقي الزرع سرطانات غريبة.. لا يتحدث الإعلام والإعلاميون عن استعادة العراقيين لوطنهم ومطالبة الأمم المتحدة في إعادة الحق إلى أهله من المحتلين، بل بتحدثون في كل برامجهم عن توفير العدس والحليب لأبناء المخيمات.
ذلك يذكرني بالإعلامي الذي كان ينتمي إلى مديرية الشرطة السرية في العراق في الحقبة الملكية عندما حصلت جريمة قتل شاب في أحد أزقة بغداد وأصبحت الحادثة تروى كنكتة عربية حيث كتب لكي ينصع وجه الشرطة السرية قائلاً (بعد أن سمعت الشرطة الوطنية بنبأ جريمة اغتيال شاب في أحد أزقة بغداد، سارعت للقيام بواجبها الوطني. وبعد جهد جهيد عثروا على المقتول والقاتل هرب) بنفس المستوى ولكن بصيغة مختلفة وبالألوان تسارع الفضائيات ويسارع المثقفون للقيام بواجبهم الإنساني وعثروا على اللاجئين وتحدثوا مع الجامعة العربية التي بادرت لمباركة المشروع وتبنيه من أجل تقديم العدس والحليب وبناء مدرسة أيضاً مثل ما فعلت الأونروا حيث بنت للاجئين الفلسطينيين المدارس ولكن القاتل هرب. واليوم فالذي كان سبباً وراء هجرة العراقيين لا يجري الحديث عنه بل يطلب منه المساهمة في تقديم التبرعات إلى اللاجئين العراقيين وهو (يعد) بذلك، وكأنه سيسهم في حل مشكلاتهم في حين السلطة هي المشكلة وليست الحل والمحتل هو المشكلة وليس الحل، وما يطلق عليه المقاومة هي المشكلة وليست الحل، والمستوطنون من بلدان الجوار وأبعد من بلدان الجوار هم المشكلة وليس الحل.
والفضائيات بالتالي هي المشكلة وليست الحل!
والمثقفون الذين يقفون وراء حملات التبرع ويخلقون مشاعر جياشة تخرج من شاشات التلفزة وتلهب قلوب المشاهدين هؤلاء هم الأخطر في المعادلة عندما يلخصون بقدراتهم الثقافية والأعلامية مسألة الوطن العراقي المفقود والمهدد بالضياع، يلخصون ذلك بمشكلة اللاجئين والعدس والحليب. بذلك يشكلون جوهر المشكلة وليس جوهر الحل الذي يلزم المثقف قبل غيره بأن يقرأ التأريخ جيداً ويعيه ويقرأ الواقع جيداً ويعيه وهو الأكثر معرفة بأبعاد اللعبة أن لا يقع في شباك البحث عن العدس والحليب ويعتق نفسه من اللعبة ويبدأ بالحديث عن وطن تمتد جذور ثقافته إلى أكثر من سبعة آلاف عام وهذا الوطن هو الذي اخترع الكتابة المسمارية أول حرف في التأريخ مكتوب ومقروء صورة وصوتاً. هذا الوطن يعاني من الأمية الآن وهذه الأمية لا تحلها بناء مدرسة لأبناء اللاجئين، فالأمية المتفشية في العراق جوهرها قبول الأمر الواقع ومعالجة توفير الحليب والعدس لشعب يغفو على بحر من الخيرات والإرث الحضاري، وأكثر ما أخشاه أن نحصل على حليب وعدس ومدرسة من الأونروا ونخسر وطناً اسمه العراق.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
- سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.n