Culture Magazine Monday  10/12/2007 G Issue 226
مداخلات
الأثنين 30 ,ذو القعدة 1428   العدد  226
 
عاشق الأدب.. (عاشق) التراث!

 

 

إذا كان كل له من اسمه نصيب كما يقال، فإن عاشق الهذال قد خلق عاشقا منذ أن قدم لهذه الحياة، وإذا ما كان معظم العشاق في جيله وقبله وبعده قد انصرفوا لوراثة تراث ابن الملوح كمفهوم متفق عليه لضرب واحد من ضروب العشق، فإن (عاشق الهذال) كان قد حدد باكرا ملامح قيسيته في أبجدية اللغة.. حتى كاد أن يخطف هذا العشق ضوء عينيه، وهو الذي ما نام ولا أفاق مع وعلى كتاب!

لقد اتخذ هذا الرجل من الكتاب خليلا، وصديقا، وصاحبا، وصفيا.. لا بل خلا وفيا، خصه بكل ما يمكن أن يخص به الخل الوفي من دفء العلاقة وحميمية الوشائج، فلم يمله أو يسأمه بطول العشرة، ولم يضجره بأذية النيل من بصره.

وهذا ما أسس في أبي عبدالسلام خزنا إستراتيجيا من الثقافة الواسعة في كل المذاقات والمشارب، وإن كان للتراث والأدب والشعر بضفتيه دائما، النصيب الأوفى في تلك الذاكرة التي لا تشيخ.

ورغم إصداراته القصصية المعروفة التي اختار أن يصنفها تحت عنوان (قصص من البيئة) انحيازا منه لمسؤولية الأديب جهة كتابة التاريخ الاجتماعي.. إلا أنها لا تعكس كل أبعاد شخصيته الثقافية خاصة ما يتصل بالموروث في كافة تفاصيله، حيث يمثل في هذا المضمار أهم المرجعيات التي يمكن أن يعول عليها، إلى جانب اهتماماته الأدبية الأخرى التي تجعل منه مثقفا موسوعيا يمتلك رصيدا هائلا مما يجب أن يدون لولا انتصار جبهة القراءة عنده على جبهة الكتابة.

ويعد عاشق الهذال أحد رواد الأدب القلائل الذين لم تأخذهم كثيرا غواية الكتابة، لهذا يمكنني وكأحد القريبين منه أن أدعي وبكثير من الثقة أنه يمثل جزيرة من الثقافة لم تكتشف بعد، وإذا كان هنالك من قرأ بعض مجموعاته أو كتابه عن مدينة جبة الذي صدر عن سلسلة (هذه بلادي) في رعاية الشباب، فإن الحكم عليه من خلال منتجه الثقافي وحسب سيبقى قاصرا بالتأكيد: إذ لم تستنزفه الكتابة ولم تأخذ منه إلا أقل القليل، ولعل أصدق وصف يمكن أن يقال عنه ما وصفه به صديقه الحميم المغفور له بإذن الله الأستاذ الكبير: فهد العلي العريفي رحمه الله.. حينما قال: (أبو عبدالسلام خابية سوالف).

وأضيف من جانبي: إنه بالفعل خابية ضخمة من القصص والحكايات والمرويات شديدة الأهمية لكنها بمفاتيح من نسخة واحدة أو هكذا بدت، كانت بحوزة الفقيد، وكل ما أرجوه أن تنكسر تلك المغاليق سلميا طبعا، لنعيد نحن وبمعية هذه الأجيال الشابة قراءة عاشق الهذال مثلما يجب وكما ينبغي، كمعين لا ينضب من المعرفة الأصلية التي ما أرخصت التراث، لكنها ما رفضت المعاصرة.

في شخصيته الأدبية مزيج فريد من العلاقات المتشابكة ما بين القاص والشاعر والمؤرخ والراوي والمعلم، تتمازج هذه الأدوار فيما بينها في نسيج ثقافي متوازن، لتصنع بالنتيجة شاهداً حصيفاً على العصر، لا يستسلم في أحكامه واستنتاجاته على معطيات الوهلة الأولى، وانثيالات العاطفة، رغم كل ما لهذه الأخيرة من مديات واسعة وعريضة في بناء مشاعره، وهو الذي ظل يستثمر مخزونه الكبير في معرفة تجارب الآخرين عبر قراءته المتأنية للتاريخ، ليجعل منها النول الذي يقيس من خلاله رؤيته للواقع والوقائع.

ولأني أصر على النظر إليه كأحد أبرز المهتمين بالتاريخ الاجتماعي في جانبه الأنثروبولوجي، ليس في حدود مسقط رأسه فقط، وهو الذي عاش جانبا من حياته متنقلا ما بين العاصمة ومكة المكرمة والطائف، إلا أنه -وهذا هو نقص القادرين- لم يتفرغ للكتابة في هذا الجانب، مكتفيا منه بما طرحه من إشارات واضحة ضمن أعماله، وبعض مقالاته الصحفية التي كان ينشرها آنذاك في بعض الصحف، وأكاد أجزم أنه لو فعل لكان أجدر من يتصدى لهذه المهمة الغائبة إلا من بعض محاولاتٍ هنا وهناك.

ويتميز (أبو عبدالسلام) وهو صاحب النكتة الجاهزة وفق مقتضى الحال، بأنه لا يفلسف الأمور، ولا يتخذ بابتعاده عن المنابر الثقافية والإعلامية موقفاً عدائياً من المشهد الثقافي -كما يفعل البعض- رغم كل ما مارسه معه هذا الوسط من العقوق.

حينما يتحلل من ذلك السؤال التقليدي الذي يواجهه به الكثيرون بنبش جيوبه لإخراج قطرة العين ليقول باسما عبارته الشهيرة وهو يعصرها في عينيه:

(سيبك يا رجل)، وكأنه يريد أن يحيل الأمر كله إلى إجهاد بصره، رغم أنها الذريعة التي ما خلصت من بين يديه الكتاب على مدار الساعة.

وإذا ما كنت أقدر (للثقافية) عاليا هذه اللفتة الكريمة تجاه قيمة ثقافية تستحق التقدير، فإنني كنت ولا أزال أنتظر مبادرة مؤسسية لتكريمه.. متعه الله بالصحة والعافية، ومتعنا بعطائه ووعيه، وروحه النبيلة.

فنر الحائلي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة