عبدالوهاب الفايز
تجربة المملكة في إعادة هيكلة منظومة الطاقة في السنوات الماضية، التي وضعتها تحت إشراف ومسؤولية وزارة الطاقة، لتحقيق (رؤية السعودية 2030) التي يقودها سمو ولي العهد - يحفظه الله - أثبتت نجاحها في تعظيم الاستفادة من هذا القطاع الحيوي، وساهمت في نقله من حقبة الاهتمام بالبترول والغاز إلى الحقبة الجديدة التي يتجه لها العالم: إنتاج الطاقة بكافة أشكالها. ولا نستغرب سرعة التفاعل مع الأفكار والمقترحات التي تقدمها قيادات وخبراء المملكة في مجال الطاقة. وهذا يعود لأمرين، الأول، الريادة وقصب السبق الذي حققته السعودية في تبني ودعم «تحول الطاقة» الذي يؤكد عليه بشكل مستمر سمو وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، وهو توجه حقيقي رأيناه على أرض الواقع من خلال برامج ومبادرات طموحه للوصول إلى المزيج الأمثل للطاقة، عبر إدخال الطاقة المتجددة، لتمثل نصف إنتاج المملكة من الكهرباء خلال أعوام قليلة، والنصف الثاني بالاعتماد على الغاز، بالإضافة إلى برامج مناخية أصبحت محط أنظار العالم مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر.
هذا النهج المدروس سيؤدي إلى الاستثمار الأمثل لموارد المملكة عبر إزاحة ما يقارب مليون برميل من البترول تحرق حالياً لإنتاج الكهرباء، حيث يمكن أن تحول إلى الصناعات البتروكيميائية، ودعم دخل خزينة الدولة لمواصلة الصرف على مشاريع التنمية. كما أن ميزة هذا التحول هو التأكيد المستمر على الارتباط الوثيق بين ثلاثة أمور محورية: أمن الطاقة، والمحافظة على النمو الاقتصادي، ومواجهة التغير المناخي.
الأمر الثاني الدافع للاهتمام بالمقترحات السعودية مرجعه خبرة وتجربة الأمير عبد العزيز بن سلمان في صناعة الطاقة التي تعود لأكثر من ثلاثة عقود، فحين يقترح سموه أو يقود مشروعاً، فهو يتحدث برؤية وخبرة المهني المحترف الذي يرى الأمور في إطارها الموضوعي الذي يخدم المصالح العليا للشعوب والدول. لذا، يأتي التقبل والتفاعل مع كل ما يطرحه، خصوصاً أنه يقدم مقترحاته وأفكاره بعد تفكر وتدبر عميقين لمعرفة مناطق القوة ونقاط الضعف، ويحلل المخاطر، والأهم من ذلك: إنه يتجرد من الذات، ويبتعد عن الفكرة أو المقترح إذا عرف أن هناك من يرغب أو يتطلع إلى تحقيق المكتسبات السريعة. هذا لا يهم عند (أبو سلمان)، المهم أن تأخذ الأمور مسارها السليم الصحيح وتتجه نحو الأهداف التي تخدم مصالح الشعوب، وهذا هو عموماً موروث مدرسة الملك عبد العزيز، يرحمه الله، الذي تعلمه وتربي عليه أبناؤه وأحفاده، منهج حكم عظيم يسمو وتعلو رايته كل يوم.
التجربة السعودية الواقعية كانت العامل الأساسي الذي دفع بالاقتراح الذي قدمته المملكة لإعادة تموضع وهيكلة منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول «أوابك»، وتغيير اسمها إلى «المنظمة العربية للطاقة (AEO)». المقترح السعودي تم تبنيه في مؤتمر المنظمة الذي انعقد في الكويت، في يومي 14 و15 ديسمبر الماضيين. ولا شك أن هذه الخطوة التطويريةً مبادرة غير مسبوقةٍ في تاريخ المنظمة، منذ تأسيسها مطلع عام 1968م، ففي المؤتمر الأخير وقعت الدول الأعضاء في المنظمة على قرار إعادة صياغة اتفاقية إنشائها، وإعادة هيكلتها، وتطوير أعمالها، والأهم عدم حصر العضوية على الدول البترولية، فكل الدول العربية مدعوة للانضمام إليها والإسهام في أهدافها.
الأمر الإيجابي الذي سعت إليه المملكة من تقديم هذا المقترح هو ضرورة (تجديد حيوية المنظمة وتوسيع دورها)؛ وأيضاً حتى يُوجد الأرضية التي تمكن الدول العربية المنتجة للنفط لإدخال اقتصاد جميع الدول العربية في قطاع الطاقة الذي يشهد تحولات كبيرة ومتسارعة على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية. بعض الدول العربية تواجه ضرورة وجودية تمس مقومات استقرارها وحيويتها الاقتصادية، وبحاجة لكل خبرة ومعرفة تلبي احتياجاتها وتتماشى مع أهدافها التنموية المشتركة حتى تتمكن من تطوير سياساتها وتوجهاتها للاستفادة من النقلة التقنية والمعرفية الكبيرة في صناعة الطاقة عالمياً.
إن توحيد الجهود داخل تحالف الدول المنتجة للبترول يثبت مجدداً جدواه، كما ثبتت جدوى إنشاء (منتدى الطاقة العالمي) الذي قَرَّب وجهات النظر، وقلل من تباين الأفكار وتوسع التطلعات بين المستهلكين والمنتجين، وهذا ساهم في تحييد التوجهات السلبية التي تتبناها دوائر المصالح السياسية والاقتصادية والإعلامية الغربية لشيطنة الدول المنتجة للبترول، بالذات العربية.
الأهم أن هذا المقترح لتطور العضوية في (أوابيك) هدفه خدمة اقتصاديات الدول العربية الناشئة التي تواجه تحديات رئيسة في استهلاك الطاقة، فالمملكة ظلّت منذ عقود مضت ملتزمة بدفع التعاون العربي المشترك، وساهمت في إنشاء ودعم المنظمات والهيئات العربية الاستثمارية المشتركة الداعمة للتنمية في الدول العربية.
دخول الدول العربية مجتمعة في منظومة واحدة يساعدها على مواجهة التحديات، والاستفادة من خبرات من سبقها في هذا المجال، حيث إن معظم الدول العربية مازالت تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز كمصادر رئيسية للطاقة، وهذا يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية. أيضاً بعض الدول تعاني من نقص في البنية التحتية اللازمة لتوليد وتوزيع وترشيد ورفع كفاءة الطاقة.
المنظمة من خلال تجارب وخبرات دول مثل المملكة ودول الخليج العربية الأخرى يمكن أن تساعد في الوصول إلى الاستثمارات المُوجهة الطاقة المتجددة، خاصة أن بعض الدول العربية تعاني من قلة الاستثمارات والتقنيات الحديثة، وهذه تعوق تطوير مشاريع الطاقة المتجددة.
يضاف إلى ذلك تحديات النمو السكاني الذي يرفع الطلب على الطاقة، والتحديات البيئية التي تواجه قطاع الطاقة، والمملكة التي نجحت في تطوير منظومة البيئة سوف تتيح الخبرة الفنية لمساعدة الدول على اتخاذ تدابير فعالة للتكيف مع التغير المناخي. كذلك هناك تحدي التكنولوجيا والمعرفة ونقص الكفاءات الفنية في بعض الدول. المنظمة سوف تساعد في الأمور الفنية حتى لا تكون عائقاً أمام تطوير مصادر الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة الطاقة.
ومن المبررات الموضوعية للاقتراح السعودي لتغيير المسمى، مساعدة الدول الأعضاء في المنظمة لتركيز جهودها على بناء شراكات استراتيجية مع الشركاء الاستراتيجيين في الصناعة. هذا سوف يساهم في تعزيز تبادل الخبرات والاستفادة من التجارب الناجحة للدول الأعضاء التي حققت الريادة في مجال تحوّلات الطاقة. وسوف يساعد أيضاً في بحث الفرص المتاحة ومواجهة التحديات التي تواجه هذا القطاع الحيوي، والإسهام في بناء الكفاءات والقدرات الوطنية للدول الأعضاء في قطاعٍ يُشكل ركيزةً أساسية لاقتصاد الدول العربية.
المملكة لديها - دائماً - قناعة بأهمية مواكبة المنظمات والمؤسسات العربية للتطورات العالمية في كافة المجالات، وهذا من المبادئ الأساسية في سياستها الخارجية، لأن هذا يخدم مصالح الدول والشعوب العربية ويحثها على ضرورة التعاون وتبادل الخبرات بينها في مجالات الطاقة التي تشهد تحولاً استراتيجياً عالمياً يتطلب التفاعل السريع والديناميكي.
المواكبة السريعة تعطي الدول الأعضاء فرصاً لرسم مستقبلها في هذا المجال الحيوي. وتحرك الدول الأعضاء يدعمه توافر الموارد البشرية المحترفة في الصناعة، هذه أحد الممكنات الأساسية لقيادة التحول في مجالات الطاقة، بالإضافة إلى رصيد الدول الأعضاء الذي اكتسبته من مساهماتها العالمية في مجالات تحول الطاقة والمناخ.
بقي الدور والمسؤولية الكبرى على الأمانة العامة للمنظمة لإنجاح برنامج التحول، ووضع خطة تطوير المنظمة تطوير نشاطاتها وأعمالها، بعد إقرار المرحلة الأولى من المشروع، وبعد توجيه الدول الأعضاء للأمانة للعمل على إعادة صياغة الاتفاقية الجديدة.
هذا القرار يعطي الضوء الأخضر للأمانة العامة للمنظمة لمواصلة الجهود لإنجاح المنظمة. لعلها تسرع التحول حتى يتحقق ما نتطلع اليه جميعاً.