عبدالوهاب الفايز
دعونا ببرود وهدوء- إذا استطعنا - نتأمل ونتدبر صور الخراب والدمار والأشلاء البشرية، والأطفال يساقون إلى المقابر، وننسى المشردين والمهجرين، والجرحى، والشهداء، والمفقودين.
دعونا من هذا، ولكن الواجب أن نقف عند جذور الأسباب التي تسوق العالم العربي إلى الوضع الصعب.
في مقال الأسبوع الماضي قلنا إن الرئيس ترامب، وطبقا لما طرحه في برنامجه الانتخابي، هو الأقرب لما نتطلع إليه في العالم العربي، ففي برنامجه إلتزام للشعب الأمريكي بإنهاء حالة الحروب المدمرة، بالذات في الشرق الأوسط.
وإذا هو يرى وقف الحروب مجرد رغبة (سوف) يعمل عليها، نحن نقول: هذه قضية كبرى مستعجلة، وامام أمريكا مسؤولية عظيمة ينبغي ويجب على قادتها وضعها في قائمة أولوياتهم، فهي المتسببة بهذه النزعات والحروب في العقود الماضية. لقد ارتكبت أخطاء كثيرة، أبرزها وأخطرها احتلال العراق وتدمير جيشه وتسليمة للمشروع الطائفي الايراني الذي اندفع يدمر ويخرب وينشئ الميليشيات الارهابية، ويتدخل في الشأن الداخلي في الدول العربية مما شكل تهديدا خطيرا على الامن القومي العربي، وهذا التدخل ساعد ودعم إسرائيل على مشروعها الاستيطاني في فلسطين! كما تذكرون، كانت حجة أمريكا من احتلال العراق تدمير أسلحة الدمار الشامل والتي اتضح انها كذبة كبرى لتبرير العدوان.
المملكة ومعها الدول العربية والإسلامية قدمت المشاريع والمبادرات العديدة للسلام والأمن ولتهدئة الأوضاع وإخراج المنطقة من الحروب والنزاعات التي جعلتها المسرح المفتوح للحروب وللقلاقل عدة عقود. فالحكومات العربية أمامها مسؤوليات عديدة تجاه مصالح شعوبها، والمنطقة وقياداتها سوف تكون مع الرئيس الأمريكي المنتخب في مسعاه لإنهاء الحروب والصراعات بأنواعها في الشرق الأوسط. فالشعوب تأمل وتتطلع إلى واقع جديد يخرج المنطقة من الهموم، والمشاكل، والمجازر، والخراب.
في الخريطة العالمية، مشاهد الحروب والدمار امتياز عربي، من العراق إلى السودان، ولا نعرف متى نخرج من هذا الوضع! أمريكا وحلفاؤها - بالذات الأوروبيين- عليهم مسؤولية إنهاء حالة الحروب والنزاعات. حاليا، التقديرات تشير إلى أن النزاعات المسلحة الدائرة حاليًا وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ الحرب العالمية الثانية. ومنذ عام 2015، شهد كل عام أكثر من 50 نزاعًا مسلحًا، حيث بلغ عددها 54 في عام 2019، و56 في عام 2020. كم حصة العالم العربي منها؟
في العالم العربي التدخلات الخارجية الأمريكية أحد الأسباب الرئيسية المباشرة للنزاعات. أمريكا ومعها بريطانيا يتحملان مسؤولية الكوارث الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي. عبثهما وتدخلهما ساهم في تشكيل الأحداث السياسية والأمنية في المنطقة منذ مطلع القرن العشرين وبعد تنفيذ معاهدة سايس بيكو. وهذه التدخلات المستمرة في النزاعات أدت الى الاحتلال والحروب، مثل التدخل العسكري الأمريكي في العراق عام 2003 الذي كان له آثار طويلة الأمد على الاستقرار في المنطقة، حيث أدى إلى تفكك الدولة وظهور جماعات متطرفة مثل جماعات الحشد الشعبي الإرهابية داعش، وغيرها كثير.
وأمريكا ساهمت في المشاكل عبر التلاعب في دعم الانظمة والتحالفات، بالإضافة إلى تدخلاتها في الصراعات المحلية مثل التدخل في الحرب الأهلية السورية، حيث دعمت بعض الجماعات المعارضة، وهذه زادت من تعقيد النزاع وأطالت أمده.
وحتى الاستراتيجيات الأمنية الأمريكية التي تحدد العلاقة مع المنطقة ظلت تركز على حماية مصالحها الاستراتيجية الخاصة، وحماية المشروع الصهيوني في فلسطين. وحين ساندت في مكافحة الإرهاب كان هدفها مصالحها الخاصة، وظلت تتدخل فقط حين تكون مصالحها ومصالح حلفائها الغربيين مهددة، وهذه النظرة الضيقة تقودها إلى اتخاذ قرارات تؤثر سلبًا على الأمن والاستقرار في المنطقة.
وغياب الأمن والاستقرار واستمرار الحروب في المنطقة العربية مازال يتسبب في توسع وتعمق الاثار الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على حياة الشعوب.
ومن الآثار الاجتماعية تدمير النسيج الاجتماعي بسبب الحروب، فهذه تؤدي إلى تفكك العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، مما يسبب زيادة الانقسامات الطائفية والعرقية. وهناك حالات التهجير والنزوح المستمرة التي استنزفت المنطقة، فالملايين من الأفراد والعائلات فروا من ديارهم مما رفع أعداد اللاجئين في العالم. والمنطقة العربية أصبحت الموطن الأبرز لأكبر عدد من اللاجئين في العالم بسبب النزاعات وعدم الاستقرار السياسي.
وأول تأثير مدمر لهذه الحروب سيكون أثره واضحا في التعليم، فقد تعطلت المؤسسات التعليمية بشكل كبير، والأجيال الحالية فقدت فرصة التعليم الجيد، أو بقيت دون تعليم. وهناك الأسوأ، وهو فقدان القيم الاجتماعية، فالحروب تؤدي إلى تآكل القيم الاجتماعية والأخلاقية، فحين يتسع العنف ويطول امد الصراعات، هنا تتربى الأجيال على أن الحياة ميدان للعنف والمقاومة السياسية، وتبدأ ترى العنف كأسلوب مقبول يعطي معنى للحياة، أي أن اللجوء للعنف امر تفرضه الحقائق على أرض الواقع! وهذا أكبر تهديد للأمن والسلام الاجتماعي.
وإذا استمرّت الصراعات، فسوف ترث المنطقة جيلا يعاني من الصحة النفسية المتدهورة، فالحروب تؤدي إلى زيادة معدلات القلق والاكتئاب والصدمات النفسية. وهذه سوف تقود إلى العنف والجرائم في المجتمعات المتأثرة بالحروب، نتيجة للفوضى والاضطراب. ولن تكون المجتمعات العربية هي المتضررة فقط، فالخبراء في الغرب بدأت أصواتهم المحذرة من موجة عنف قادمة بسبب الحروب الكارثية سواء في فلسطين أو في لبنان، والان يضاف السودان الذي تدمرت مقومات الحياة فيه.
وأبرز الآثار السلبية للحروب نجدها في تدمير البنية التحتية، فالحروب تؤدي إلى تدمير المنشآت الأساسية مثل الطرق والمستشفيات والجامعات. كذلك المنطقة سوف تعاني من تراجع لاستثمارات الأجنبية والمحلية خوفا من دخول المناطق المتضررة من النزاع، مما يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي وتعطل الأنشطة الاقتصادية في مختلف القطاعات.
وتراجع النشاط الاقتصادي المستمر أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، وفي العالم العربي تبلغ نسبة البطالة 30 بالمئة بين الشباب من سن 15 الى 30 عاما، وهي سن الانتاجية الأساسية، وهذا ساهم في تزايد الفقر وتآكل الطبقة الوسطى وزيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر. وبلغ معدل بطالة النساء 22.7 في المئة في عام 2021، وهو أعلى معدل في العالم، ويفوق بكثير المتوسط العالمي البالغ 6.4 في المئة.
والعالم العربي متأخر في مجال مهم وهو نفقات الامن الاجتماعي التي تغطي التعليم والصحة والتغذية والسكن والاتصال والمرافق المجتمعية، والتدخلات في سوق العمل والحماية الاجتماعية والدعم ومساعدة المزارعين والفن والثقافة والرياضة وحماية البيئة. الان الحكومات العربية تخصص نحو 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 20 في المئة. ويتراوح مجموع الإنفاق الاجتماعي بين 10 و20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان العربية. والمؤسف استمرار المنطقة في الاعتماد على المساعدات الخارجية، فهذه أثرت على قدرة الدول على الاستقلال الاقتصادي والتنمية.
المؤكد أن استمرار الحروب يؤدي الى زيادة الإنفاق على الأمن والدفاع والتسلح، وهذا يحرم المجتمعات العربية من النفقات التي تعزز الحياة الكريمة. لقد أصبحت النزعات تهديدا وجوديا مستمرا يشل قدرات الحكومات على الاستمرار في رفع معدلات التنمية المستدامة.
الحروب في المنطقة العربية مازالت تؤدي إلى تداعيات وخيمة تؤثر على الأفراد والمجتمعات، وهذه ترفع التكلفة والجهد لإعادة الإعمار والتنمية.
والسؤال: هل ستكون أمريكا قادرة على انهاء الحروب؟ نأمل ذلك. وإذا هي غير قادرة أو غير راغبة، فالأفضل لنا وللشعب الأمريكي أن تخرج أمريكا من (محور الشر والخراب الثلاثي) الذي دمر المنطقة، المشروع الطائفي الصفوي والمشروع الصهيوني.