عبدالوهاب الفايز
قال لقريبه الذي يزوره في بعد انقطاع تجاوز العام: غريبة، كم محلا في شارعكم مقفل؟
أجابه: نعم، أغلقت ويقال السبب الإيجارات.. أكيد رفع عليهم الإيجار بأمر غير معقول!
وعاد للسؤال: والمطعم الكبير الذي تعشينا فيه آخر مرة قفل؟
أجابه: نعم يالغالي، هذا تحول لـ (لاونج أنيق للمعسل وللشيشة)، وأغلب المقاهي والمطاعم تحولت (لاونجات)، فالربح مضمون وعالٍ جدا، والزباين بازدياد! ولأنه يعرف رأي قريبه في مثل هذه الأمور، وحتى لا يعكر صفو هذه الزيارة المنتظرة، أخذه إلى أمر يحبه ويسعده، ويدغدغ خيالاته الحلوة، ويحيي بعضا من آماله المُعلقة والحذرة جداً!
***
في السنوات الأخيرة هناك عدد كبير من المشروعات الصغيرة والمتوسطة خرجت من السوق، أو غيرت النشاط إلى محلات أبو ريالين، أو بيع خضار وفواكه، وحلويات، أو أكلات شعبية.. أو إلى تقديم المعسل والأكلات الخفيفة عبر النشاط الجديد المنتشر (اللوانج)، الكثير من المطاعم والمقاهي تحولت إلى هذا النشاط المربح مع الأسف! (فرصة ذهبية للتستر التجاري!!)
بالتأكيد الرقم كبير ومخيف، ويبقى السؤال: لماذا هذا الخروج؟
هناك عوامل عديدة لخروج المنشآت الصغيرة والمتوسطة أو فشلها، ولكن يبقى عامل رئيسي يتفق عليه أغلب من دخل هذا النشاط وهو: الارتفاع الكبير والمستمر لأسعار الإيجارات! هناك من يرفع الإيجار بنسبة سنوية تصل إلى 100 %، وسواء كانت نسبة الارتفاع أقل من هذه أو أكثر، فإنها تفوق الوضع الطبيعي المقبول في ممارسة التجارة، وهذا الوضع سيكون له الوضع السلبي المُربك لنشاط التجارة المحلية، وأيضا يساهم في تضخم أسعار العقار.
وهذا الوضع أيضا انتقل إلى الايجار السكني، فالملاك أصبح بيدهم الآن إخراج السكان إذا لم يقبلوا بالأسعار الجديدة، والتي غالبا ترتفع بنسب سنوية تتجاوز الثلاثين بالمئة.
والسؤال: هل يحق للحكومة التدخل لضبط الأسعار وتوجيهها؟
الأفضل ألاَّ تتدخل الحكومات في التسعير للسلع والخدمات، ولكن يبقى تدخلها الذكي والحذر ضروري إذا كان يخدم المصلحة العامة للدولة، وللناس، وللاقتصاد، وللمستثمر، بالذات في المجالات التي تمس مقومات الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
عادة يكون تدخل الحكومة لأجل المصلحة العامة إذا وجدت أن ارتفاع الإيجار يتم بنسب مبالغ فيها وينعكس أثرها السلبي على المصلحة العامة، بالذات في المنشآت التعليمية أو الصحية، وغيرها مما يتعدى أثرها إلى الأمور الأساسية لحياة الناس. هنا يحق للحكومة أن تتدخل لضبط نسب الزيادات في الإيجاز وتوجيهها لخدمة المصلحة العامة لجميع الأطراف.
أيضاً يكون تدخلها ضروريا لخدمة المصلحة العليا الاقتصاد الوطني إذا أصبح ارتفاع الإيجارات يشكل عائق نمو وتطور للمنشآت الصغيرة والمتوسطة. هذه المنشآت لها دورها الأساسي في إنعاش حركة التجارة، ولها أثرها في سوق العمل عبر إيجاد الوظائف، ولها أثرها في زيادة التنافس على تقديم الخدمات والسلع للمستهلكين، وهذه ضرورية في الأسواق الحرة لممارسة التجارة. كذلك تدخل الحكومة يكون ضروريا إذا أصبح يخدم المستثمر سواء مالك العين العقارية أو المستأجر؛ فكلا الطرفين تحتاج العلاقة إلى وسيط ينظر إلى المصالح بينهما بحياديّة. لقد أدى السماح للمستثمر بوضع الأسعار التي يرغبها، وأعطيت المرونة للمستثمر في تحديد سعر الإيجارات بالنسبة السنوية التي يرها. وأعطاه النظام الحق في إخلاء الوحدة المُؤجرة. وكل هذه أمور إيجابية كان يحتاجها القطاع العقاري ليطور ويُنوع نشاطه، وكانت الأنظمة الداعمة الجديدة من عوامل تمكينه. ولكن هذه أصبحت من عوامل إخراج العديد من الأنشطة التجارية، ورفع تكلفة السكن.
دعم القطاع أدى إلى دخول مستثمرين جدد ليس لديهم الخبرة في النشاط، خصوصاً رفع نسب الإيجارات بمعدلات غير طبيعية، غير مدركين لمراحل الدورات الاقتصادية التي تتعاقب فيها مراحل الازدهار والانكماش. لذا قد يكون المستثمر المُؤجر أيضا متضررا من إغلاق المحلات، فالمشاهد حاليا بقاء المحلات التجارية لفترات طويلة بحثا عن مستأجر جديد، وإغلاق هذه المحلات دون استثمار خسارة للملاك.
أيضا المستثمر الذي وضع رأسماله وجهده في المنشأة سواء كانت مطعما، أو مقهى وغيرها، هذا غالبا مستثمر جديد يدخل لأول مرة - بالذات بعد طفرة دعم ريادة الاعمال التي تبدأ من (ترك) في الشارع - مستثمر لم تكن لديه الخبرة والمعرفة الكافية لإدارة المنشآت التجارية. هنا هذا المستثمر الوليد إذا ارتفعت عليه قيمة الإيجار بشكل يفوق قدراته التمويلية، فطبيعي أن يخرج خاسرا. وهذه عموما ليست سلبية ففيها دروس إيجابية عظيمة.
وظاهرة ارتفاع الإيجارات أثرت حتى على المستثمر الخبير، فهناك منشآت خسرت لمستثمر محترف أعد جيدا دراسات الجدوى الاقتصادية الدقيقة، ولكنه تفاجأ بمتغيرات يصعب ضبطها والسيطرة عليها مثل الرسوم والغرامات غير المتوقعة، فهذه شكلت عبئا ماليا يضاف إلى ارتفاع أسعار الوحدة العقارية المستأجرة. فالإيجار إذا كان في معدلات تتجاوز النسب المعقولة المتماشية مع معدل العائد على الاستثمار في القطاع، فهنا لن يكون أمام المستثمر سوى الخروج السريع، والمستثمر المحترف علّمته التجارب أن تقليل الخسارة وإيقافها هو ربح.
وهذا الخروج أيضاً يضر المستثمر المُؤجر الذي ربما تكون وحدته العقارية هي استثماره الأول في القطاع، وربما قامت بتمويل من البنك، وهنا إذا هو رفع الإيجارات، أو لم يقبل بآليات مثل خفض نسبة الإيجار، أو عدم تغييرها، أو إعادة جدولة الدفعات المستحقة.. هنا إذا رفض تكون حساباته غير مدركة لطبيعة الأنشطة التجارية ولطبيعة الاستثمار في العقار، وقد يكون هو المتضرر الأكبر. هنا نقول إن تدخل التشريعات الحكومية الذكية ضرورية لحماية المستثمر من جهله أو من طمعه.
والسؤال الموضوعي: كيف تتدخل الحكومة؟
عادة الحكومات تتدخل عبر التشريعات والقوانين الذكية والموضوعية والأخلاقية التي التي تخدم المصلحة العامة لجميع الأطراف. ألية التدخل التي نسمعها من المختصين وأهل الخبرة الفنية ويتم تداولها هذه الأيام مع توسّع ظاهرة اغلاق المحلات التجارية والمكتبية، تتم عبر وضع نسبة مئوية معينة تكون مبنية على متوسط نسبة التضخم في الاقتصاد، مع متوسط نسبة العائد على الاستثمار في القطاع حسب الموقع للوحدة العقارية. وقد يضاف لها نسبة مخاطر غير متوقعه إذا هناك معادلة علمية لاحتساب نسبة المخاطر. وهكذا فتحديد سقف للإيجارات عبر وضع حد أقصى لزيادتها سنويًا بناءً على مؤشر التضخم أو العائد على الاستثمار أو عبر متوسط دخل الأسر، قد يكون آلية مناسبة.
الوضع القائم يحتاج التدخل الذي يأخذ بمتطلبات المصلحة العامة، وأيضا يعجل بالتدخل الذي يحمي الاستثمارات من القرارات السريعة غير المدروسة. والأهم: أن نحمي (طبيعة المنافسة) في الاقتصاد، ونتحوط من (دخول الاستثمارات الكبيرة) التي قد تستغل الوضع القائم لإنشاء حالات (هيمنة) على الحصص السوقية، الأخطر: احتكار تقديم السلع والخدمات.
والأكثر أهمية قطع الطريق على توسع ظاهرة التستر التجاري، فهذا السرطان يجد فرصته الذهبية للانتشار في مثل هذه الظروف، وتحول المطاعم والمقاهي إلى (لاونجات)، مسار يوضح خطورة وتغول (واحترافية) صناعة التستر التجاري في اقتصادنا الوطني!