عبدالوهاب الفايز
وجاءت أخبار انتصارات الثوار المفرحة في سوريا لتحيي الأمل في النفوس، الأمل بعودة الأمن والسلام للبلد العظيم المنكوب بحكم الأسد لنصف قرن، وأصداء الفرح ترددت في العواصم العربية مرحبة بعودة مدن التاريخ الأموي حلب، وحمص، وبالذات دمشق حاضرة العروبة الأولى، حاضرة معاوية، وفرحنا بارتفاع أصوات الآذان في منابر المسجد الأموي، وكأنهم الفرحون العرب يقولون للشعب السوري ما قاله أحمد شوقي: (وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي… جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ).
ولكن هذا الفرح بانتصار الثورة صاحبه خوفان. الأول نسيان الثوار للحقيقة المرة، وهي أن عدوهم الذي احتل سوريا ونفذ مشروع التطهير العرقي الطائفي البغيض لن ينسى مشروعه الذي سقط بعد جهد أربعين عاما. كذلك العصابة الصهيونية في فلسطين المحتلة تترقب، بل لم تنتظر، فقد شنت الطائرات الإسرائيلية 400 غارة جوية لتدمير ما تبقى من الجيش السوري. والخوف الآخر هو الخشية أن يدرك قادة الثوار الغرور والتكالب على الدنيا وشهوة الحكم، فيعودون للاقتتال بينهم.
ويبقى أملنا أنهم تعلموا الدروس من الحياة القاسية التي مروا بها، ومن التضحيات التي قدموها، ونأمل أن يستثمروا تجربة الحكم المحلي الذي مارسوه في إدارة إدلب في السبع سنوات الماضية. الشعب السوري بكل أطيافه اكتوى بنار نظام الأسد، فالكل شريك في المعاناة، والكل له نصيبه وواجبه في مشروع البناء.
وحتى الفرح بانتصار الثورة اصطدم بالحقيقة المرة حين انكشف العالم المرعب خلف أسوار السجون والمعتقلات، لقد اكتشف العالم أن السجون والمعتقلات أكثر وأكبر من المستشفيات والجامعات. دكتاتورية لمدة نصف قرن اتضح أن بناء السجون المتطورة بتقنيات التعذيب هو استثمارها وإنجازها الأكبر! وهنا ثمة مفارقة مؤلمة: كيف ستكون سوريا اليوم لو أن هذه الدكتاتورية المبدعة اتجهت إلى البناء والتعمير والزراعة والصناعة ونشر العلم؟!
وما تكشف من قصص ومآسٍ وعذابات في السجون ذكرتني بروايتين لم أستطع إتمام قراءتهما، وهما رواية (الجذور) للروائي الأمريكي (اليكس هيلي)، والرواية الثانية ( شرق المتوسط)، للروائي عبد الرحمن منيف. في الروايتين تجربة مريرة للإنسان، وفيهما وحشية صادمة لمدى جبروت البشر حينما يتلبسهم الشيطان.
الجزء الأول من رواية الجذور ممتع ويدور حول حياة (كونتا كنتي) بين أهله الأفارقة الذين ظلوا يعيشون حياتهم بسلام ويواجهون تحديات الحياة بالطريقة التي توارثوها، وفجأة هبط الأوربي الأبيض المتوحش على أرضهم وطفق يسرق الثروات ويقتل ويستعبد الأرواح!
وفي شرق المتوسط، تصدمك حياة السجناء بكل تفاصيلها، فتكاد تشم رائحة تعذيبهم، وتصدمك ظروف حياتهم بعد تنفس الحرية، ومعاناة أهاليهم. هذه وبعد أن شهد العالم فظاعة ما حدث في سجون الأسد.. هنا تصبح رواية شرق المتوسط قصة قصيرة مقبولة مقارنة بما يتكشف الآن من رعب في سجون ومعتقلات سوريا خلال نصف قرن. رواية شرق المتوسط ربما تكون بمثابة الكلمة الافتتاحية أو المقدمة لآلاف الروايات القادمة التي (تسترجع Flashback) ما جرى في السجون الكبرى لشرق المتوسط، معتقلات سوريا، والعراق وإيران، والكيان الصهيوني.
سنوات (رجب إسماعيل) الخمس كسجين سياسي، هذه السنوات لن تقارن بحالة السجناء الذين ماتوا تحت التعذيب، أو بوضع الذين تنفسوا الحرية بعد قضاء عشرات السنوات في السجون لمجرد اعتراضهم على شرطي، أو سؤال موظف جمارك، أولم يبتسموا ويستجيوبوا لطلب دفع رشوة، أوتم تفتيشهم ووجود بضع دولارات في جيبوهم! المئات سيكتبون روايات عذاباتهم، وستكون الملحمة الإنسانية الكبرى الجديدة في القرن الواحد والعشرين!
قصص السجن والاعتقال لأسباب وحيثيات بسيطة تافهة، كانت ممارسة عادية للنظام البائد، وما حدث في السجون رأينا جانبه المرعب في الأيام الأولى للثورة.
في كتابه التمرد السوري، وعندما تحدث عن الجذور الدموية لنظام الأسد، استدعى فؤاد عجمي الذكريات المؤلمة لأيام الثورة الأولى، يقول: «الصبي ذو الثلاثة عشر عاما من مدينة درعاً الجنوبية على الحدود الأردنية واسمه حمزة الخطيب أصبح رمزا لهذه الحرب بين النظام وشعبه. قبض على الصبي مع عدد من أقرانه. كانوا قد اقترفوا الذنب الذي لا يُغتفر وهو كتابة خربشات ضد النظام على جدران مدينتهم. أعيد جثمانه إلى أهله بعد شهر. كان قد تعرض للتعذيب وكانت ركبتاه وعنقه مكسورتين وحتى أعضاؤه التناسلية كانت مقطوعة.
في أذهان الدكتاتورية وزبانيتها أن ما فعلوه سيكون رادعا ويخيف الناس ليعودوا إلى منازلهم. لقد نفع ذلك من قبل، ولكن حاجز الخوف قد كسر. ذلك الفعل المريع قوى عزيمة أولئك الذين أرادوا التخلص من النظام الوحشي» من كتاب، التمرد السوري، جداول (2013).
والسؤال الذي يطاردنا الان: هل سيعود هذا التاريخ الدموي بوجه آخر، وبلاعبين جدد؟
كلنا نأمل ونرجو أن تُطوى صفحة العنف، وتخرج المنطقة من حالة التوحش والفوضى. ولكن يبدو أن قادة مشروع تصدير الثورة الإيراني مازال لديهم الحلم بعودة سوريا لتكون محور دول الممانعة والمقاومة، كما يزعمون، فالتصريحات المحسوبة على رموز المشروع الإيراني في المنطقة جاءت صريحة ومباشرة مبدية الأسف والأسى لسقوط نظام الأسد، وهي التي طفقت تروج الأكاذيب عن قيادات واهداف الثورة السورية، وتتهمها بالعمالة لإسرائيل وتركيا! وهذه التصريحات النارية مؤشر على عذاب النفوس، فالصراخ بمقدار الألم!
وأيضا الذي يربك أمانينا وأحلامنا بالسلام والأمن في سوريا ولبنان هو تطلعات ومشاريع أمريكا وإسرائيل في المنطقة. إسرائيل، وهذا لم يعد سرا، عاشت بسلام وأمان على حدودها مع سوريا بعد توقيع صفقة الحماية مع نظام الاسد عام 1974م. لقد تولى النظام حماية حدود إسرائيل في الجولان مقابل حماية أمريكا وحلفاؤها الغربيين للنظام والتستر على جرائمه.
ومؤشرات هذه المعاهدة السرية مع الصهاينة يرى الزائر للجولان تطبيقاتها على ارض الواقع. في نهاية التسعينيات الميلادية كنت في زيارة الى سوريا ضمن وفد إعلامي عربي. حين طلبنا زيارة الجولان تمت الموافقة لعدد محدود. هناك وجدنا المنطقة معزولة تماماً، وحين شاهدنا البيوت المدمرة في مناطق جميلة للحياة والسكن، وتساءلنا: لماذا لم يعاد تعميرها؟ كان الجواب أن هذه بقيت هكذا لتكون شاهداً على العدوان الإسرائيلي.
وفي المقابل وعندما تقف قريبا من (تلة الصراخ)، مقابل قرية مجدل شمس، وهي منطقة يتبادل فيها أهالي الجولان المحتل الحديث عبر مكبرات الصوت مع أقربائهم في الأراضي السورية، هناك ترى مظاهر الإعمار والمزارع في الجانب المحتل من الجولان (سلة الغذاء الخصبة)، وتحت ظلال جبل الشيخ الشامخ على ارض سوريا العظيمة.
سوف تبقى سوريا في حالة صعبة سياسيا وإنسانياً واقتصاديا، وهذا الذي دعا الدول العربية إلى تبني مبادرة عاجلة لدعم قادة الثورة حتى يتفرغوا لبناء الحياة السياسية وحتى تبقي سوريا موحدة وجاهزة لمشاريع إعادة الاعمار، وجاهزة لعودة اللاجئين والمهاجرين. وكما وقفت مع الشعب السوري في محنته، تبادر السعودية، حكومة وشعبا، إلى دعم هذه الجهود، وتضع ثقلها السياسي والاقتصادي لدفع المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم والمساندة للشعب السوري.
وحتى لا تتكرر المأساة.. لعل الجامعة العربية تدفع المجتمع الدولي إلى المطالبة بمحاكمة بشار الأسد وكلّ المتورطين معه من أقاربه وعصابة الشبيحة، وكذلك قيادات الأحزاب والمليشيات العميلة لإيران التي تورطت بدماء السوريين الأبرياء.