عبدالوهاب الفايز
يستحق مقال الأمير الدكتور عبد العزيز بن محمد بن عياف الذي نشرته جريدة الجزيرة، الخميس 21 نوفمبر 2024، بعنوان (السلمانية.. استعادة الهوية العمرانية الوطنية) الوقوف عنده لما يحمله من رسائل وطنية وعلميّة ومهنية تتناول مفهوم العمارة السلمانية.
وللحقيقة أقول إن هذا المقال وضعنا امام المفهوم الصحيح الذي يعكس طبيعة العمارة السلمانية، ويبدو أن كثيرين - وأنا واحد منهم - كنا نعتقد أنها ترتبط فقط بشكل المباني وتصاميمها المعمارية، وأنها خاصة بالرياض، ولكن الدكتور بن عياف أخذنا إلى جذورها الاساسية موضحا ارتباطها بأمور أخرى عديدة وأصيلة وبعيدة المدى، فهي ترتبط بالإنسان، وبالأرض، وبالتاريخ، والهوية الوطنية، وبكل مناطق بلادنا.
والمقال أقرب إلى (النداء الوطني)، بل هو كذلك، وقد ورد ذلك في ثنايا المقال حين قال (إن واجبنا أن نسلط الضوء عليها. إنه نداء للتعرف والإقرار بالقوة التحويلية لذلك التوجه الذي يكمن في جوهر الحكمة السلمانية، دمج الأصالة بالحداثة، وهو رؤية تتجاوز الزمن، وتحتضن جذور التراث وتصل إلى سماء الابتكار اللامحدودة. لتؤكد بأن التوجه السلماني خارطة للتعايش المتناغم بين التقاليد والتطور، وهو إرث يدعونا جميعا إلى أن نكون أوصياء على الأرض).
وهذه مبادرة ايجابية مهمة من الأمير الدكتور بن عياف لطرح هذا الموضوع حتى لا يضيع منا الهدف الأساسي لإطلاق العمارة السلمانية، فالهدف كما يقول أن تكون (خارطة طريق للإدارة والتنمية الحضرية)، وهي في إطارها العام تُشكل (المنطلق لإحياء الهوية العمرانية للمدن السعودية)، ولذا يدعونا إلى (فهمها فهما عميقا جادا)، ويرى أن بيدنا فرصه تاريخية بعد (تبني القيادة لها)، ويرى ضرورة عدم تركها (لتفسيرات ووجهات نظر وجدليات مختلفة من أفراد أو مجموعات قد تنحرف بها عن هدفها ومسارها الصحيح).
ولكن ما هي الفكرة التي تقوم عليها؟ يقول إن فكرة السلمانية بنيت لأجل (المواءمة بين الأصالة والمعاصرة)، فهذه هي جوهر نهج السلمانية العمراني، ولها اهداف وطنية كبرى تمتد إلى (المحافظة على الهوية الوطنية بجانبها الأصيل، وفي الوقت نفسه تفتح الباب بمعاصرتها لشحذ الهمم والأفكار من أجل تأكيد الهوية العمرانية الوطنية وتمكينها)، والامر المهم الذي أشار إليه هو أنها (ليست محصورة بمكان أو زمان. ولذلك يجب التركيز ولفت النظر إلى عدم تسطيح السلمانية كمنتج فقط والمطالبة بتكراره أو عناصره ومفرداته).
ومما لاحظه أن هناك فهما خاطئا حول تطبيقها، يقول: (يخطئ من يعتقد أننا عندما نطالب بتطبيق السلمانية ونشرها في جميع مدن ومناطق المملكة أننا نطالب بتوحيد الطراز العمراني النجدي المحلي وتطبيقه في كافة المدن السعودية)، وفي رأيه إن هذا الفهم الخاطئ يتجاهل أن (لكل منطقة من مناطق المملكة طابع خاص يميزها عن غيرها من حيث مواد البناء والمناخ والمجتمع وأصالة الإرث العمراني)، ويوضح إن (السلمانية نهج يحترم ويقدر العمارة والعمران المحلي لكل منطقة وبكل عناصره وتفاصيله، ويسعى إلى احتواء كل جديد معاصر لا يؤثر على روح ووظيفة وانتماء المبنى لمحيطه التاريخي والجغرافي والاجتماعي. ويتميز النهج السلماني بشموليته، فرغم ارتباطه الوثيق بالرياض، إلا أن تعميمه على مدن ومناطق المملكة أصبح ضرورة ملحة).
ومن المقال نستخلص أن العمارة السلمانية انبثقت (من الحراك والتطور العمراني الذي تشهده العاصمة منذ ما يزيد على الخمسة عقود، التي تردد فيها صدى نبض التطور الحضري الديناميكي لمدينة الرياض تحت القيادة المؤثرة لأمير منطقتها آنذاك الأمير (الملك) سلمان بن عبدالعزيز. قادت شخصيته البارزة والملهمة تنمية وتطور المنطقة منذ عام 1963 إلى عام 2011م، بملامح اتسمت بالتحول الفريد في المشهد العمراني للمدينة. وشهدت المدينة تحولا غير مسبوق لتصبح مترامية الأطراف تنمو نموا سريعا في ظل توجيهاته الحكيمة، التي تركت في النسيج الحضري الحالي للرياض بصمة واضحة وصريحة لرؤيته الاستراتيجية)، كما ورد في المقال.
وطبقا لما ذكره (أطلق للمرة الأولى مصطلح العمارة السلمانية كوصف لمنهج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز فيما يتعلق بالطابع العمراني المحلي لمنطقة الرياض، الذي يحافظ على أصالة التراث ويأخذ بالمستجدات العصرية في تزاوج مثالي بين الأصالة والمعاصرة يحفظ الهوية العمرانية المحلية).
وفي المقال نبه إلى عدد من الأخطاء التي وقع فيها البعض حين طُرحت السلمانية، منها:
أولا، يقول: (يخطئ من يعتقد بأن العمران السلماني هو جميع المشروعات والمنشآت التي أقيمت في عهد سلمان بن عبدالعزيز إبان إمارته لمنطقة الرياض، ففي ذلك تسطيح لمصطلح العمران السلماني إذ ظهر في تلك الفترة منشآت عمرانية حكومية وخاصة، غير ذات صلة بتاريخ أو عمران، ولا تعكس الفكر السلماني العمراني).
ثانيا، (يُخطئ من يرى السلمانية ويختزلها في العمارة المحلية النجدية التقليدية وفي مفرداتها وعناصرها المعمارية المعروفة، فالسلمانية أشمل من ذلك وأوسع ولا يمكن تضييقها في ذلك الإطار، فهي تتعدى تلك التفاصيل بكونها توجها تنعكس تفاصيله المختلفة بحسب الظروف التاريخية والجغرافية والبيئية، وبما يتوافر من عناصر حديثة يمكن استيعابها للتواؤم مع متطلبات العصر).
ثالثا، (يخطئ من يعتقد أن السلمانية هي المنشآت المعمارية فقط، إذ تشمل الإطار العمراني التنموي الأشمل باعتباراته التخطيطية والبيئية والإنسانية).
وبعد أن وضعنا المقال أمام مفهوم كبير يتجاوزا فهمنا، وبما أننا في نهضة عمرانية يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد يحفظهما الله، وبيدنا فرصة تاريخية، ربما الذي يساعدنا لتحقيق ما يتطلع إليخ الدكتور بن عياف هو المبادرة إلى تحقيق الآليات التالية:
1- في المقال وردت الإشارة إلى أهمية (تأصيل) التجربة الطويلة لرحلة العمران في العاصمة بعد أن وصلت إلى (النضج المعماري والعمراني). وهنا نتطلع إلى تصميم برنامج خاص في إطار مركز (عمران السعودية) التابع لكلية العمارة والتصميم بجامعة الأمير سلطان بحيث يقود الجهود الوطنية لأجل تبني وفهم وأخذ نهج السلمانية لمستويات متقدمة.
هذا البرنامج سوف يجعل جامعة الأمير سلطان أول الجامعات السعودية المبادرة وبسرعة (للسعي للاستفادة من الوضع الحالي سواء في هذا المستوى من النضج المعرفي والمهني للسلمانية).
جامعة الأمير سلطان لديها مبادرات نوعية متميزة وتأتي دائماً في الوقت المناسب، والآن لدينا فرصة مناسبة، وكما ذكر الأمير الدكتور بن عياف في المقال، فالمملكة تمر بـ (تنمية عمرانية ضخمة وبمشروعات كبرى في ظل رؤية المملكة 2030 يندر أن توجد في أي بلد آخر سواء من حيث سرعة أو حجم المشروعات وتنوعها أو في اختلاف مواقعها وتوزيعها الجغرافي، أو تعدد الخبرات العالمية الاستشارية).
وهذا البرنامج يلتقي مع هدف المركز الذي يسعى إلى (تطوير جهد مؤسسي فكري لدراسة وتوثيق العمران في المملكة). وهذا البرنامج أيضا سيكون أحد الاليات العملية لدعم حرص وتجه سمو ولي العهد للعمارة السلمانية، وقد لمسنا هذا الحرص حين أعلن سموه عن إطلاق مسمى «حي الملك سلمان» على حيّي «الواحة» و»صلاح الدين» وتطويرهما لرفع البعد الإنساني في الحي بمسماه الجديد، ورفع معدلات جودة الخدمات الأساسية والأنشطة الترفيهية والترويحية وتطويره، وخلق هوية عمرانية ومعمارية للمرافق العامة في الحي منبثقة من العمارة السلمانية ومبادئها.
2- ومما يخدم تأصيل العمارة السلمانية على المستوى الوطني هو انشاء معهد متخصص في جامعة سلطان بحيث يكون جسرا مؤسسيا لربط المختصين وطلاب الجامعات، وهذا سيكون الالية العملية لتحقيق ما دعا اليه المقال وهو ضرورة معايشة الحراك التنموي الضخم الذي تشهده بلادنا، وهو كما يقول، نقلة (تنموية ضخمة لو كانت في بلد آخر لابتعثنا طلابنا ومتخصصينا إليها ليستفيدوا من التجربة. والحمد لله فطالما هي عندنا وبيننا وتخصنا، فعلى المختصين والمتخصصين من السعوديين أن يعيشوا التجربة ويكتبوا عنها، ويتقصوا عنها، والمشاركة إيجابيا في تحقيقها، وينشرون ويوثقون ما يستطيعون لنقلها للجيل الحاضر وللأجيال المقبلة).
نموذج عمل المعهد المقترح يقوم على انشاء برامج وزمالات محكومة بالضوابط والآليات لمدة سنه او اقل، حتى تربط المختصين وطلاب الهندسة والعمارة في الجامعات السعودية بالمشروعات الكبرى العامة والخاصة.
3- إنشاء مركز الاثراء المعرفي في الجامعة، وهذا سيكون دوره تفعيل مساهمات المكاتب الاستشارية الهندسية والمعمارية السعودية، مع جمعية علوم العمران، وهيئة المهندسين السعوديين، وهيئة فنون العمارة، وكليات العمارة لأجل تبنى ورش عمل متخصصة ومحاضرات وندوات وبرامج إعلامية تتخصص في العمارة السلمانية.
هذه اليات عملية وغير مكلفة، ولكن أثرها الوطنيّ الممتد سيكون كبيراً يوازي أهمية العمارة السلمانية، والاهم يؤصّل ويخلد ما قدمه الملك سلمان لبلادنا، ويستجيب لحرص ودعم سمو ولي العهد، أول وأكثر من دعم أهمية وقيمة العمارة السلمانية.