ودعت العاصمة الرياض أمينها السابق الوالد عبدالله العلي الصالح النعيم (رحمه الله). شوارعها وميادينها وأحياؤها تشهد له بالتفاني والإخلاص. كتب الكثيرون حفظهم الله وأجلهم عن سيرته العطرة في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي مشيرين لأعماله وولائه لقادته ووطنه، وعلى الأخص المدينة التي أدار جهاز أمانتها لمدة خمسة عشر عاما. الكثير يشهد له بالإخلاص والأمانة في عمله تحقيقا لتوجيهات وتوجهات أميرها نذاك الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، كما كتب الكثيرون عن أعماله التطوعية واهتمامه بالعمل الاجتماعي والحث عليه، وعن شخصيته ومتابعته لأدق تفاصيل مهامه المتعددة.
إن الفقد قاسٍ والكتابة عنه تؤلم، حيث يتجمد القلم من هول الصدمة، نعم لقد فقدت والدي، وقد سبق أن كتبت عنه في حياته وكان القلم يسبقني، أما الآن والألم يعصرني ويدي ترتجف ودمعتي على خدي يتوقف القلم كأنني لا أريد أن أصدق الحدث.، ولا أريد أن أكتب عنه بصيغة الماضي، وضمير الغائب.
كنت أشعر بوجوده طوال حياتي وأين ما ذهبت أشعر أنه معي يتابعني أين ما حلت بي الأقدار، لقد شاهدته، طفلة، كيف كان يحرص على رضا والديه ويبرهما، فقد أجل دراسته للدكتوراه في الخارج زمنا خوفا أن تبقى والدته وأخواته لوحدهم رغم وجود الأقارب من حولهم.
لقد تولى مسؤولية ليست باليسيرة، فقد كان يرعى والدته وأخواته فضلا عن أسرته المكونة من زوجة وابن وستة من البنات، الكل عاشوا تحت سقف واحد ينعمون بالمودة والترابط الأسري كغيرهم من أسر شارع المتنبي في حي الملز بالرياض.
كان يهتم اهتماما شديدا برغبات واحتياجات والديه، ومهما زادت مسؤولياته في خدمة الوطن لم ينقص ذلك شيئا من اهتمامه حتى بعد رحيلهما. كذلك كان اهتمامه بإخوته وأخواته مضرب المثل. عشنا في بيت الأسرة الممتدة حتى كبرنا وأصبحت الحاجة ملحة للتوسع في المكان ورغم انتقالنا بعيدا عنهم إلا أنه حرص على زيارة والدته وأخواته يوميا، وقد كان ذلك من أهم ما في جدول التزاماته. وكان يحرص أن تنعم أخواته وأية امرأة أو فتاة بالتعليم الرسمي قبل نشأة مدارس البنات، واعتبر التعليم سلاحا للمرأة في عموم شؤون الحياة. وقد بارك الله اهتمامه بوالديه وأخواته وأسرته أن أصبح رجل دولة يشهد له بالإخلاص.
كان حريصا على أن نكمل تعليمنا وننال أعلى الشهادات. إن مسيرة والدي (رحمه الله) وطريقة تعامل والدتي (رحمها الله) مع الآخرين، ألهمتني في سعيي لدراسة الإنسان والمجتمع، لقد منحنا جميعا الثقة والاستقلالية، والاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية، والتخطيط للمستقبل. لقد غرس فينا حب الوطن والقادة والولاء والإخلاص، كان والدي دائما يردد قاعدة من جد وجد ومن زرع حصد، ويستخدم أبياتا من الشعر والأمثال لحثنا على العمل والتفاني. كما عودانا على عدم تأجيل المسؤوليات كأنه استلهم سير العظماء في تنظيم الوقت وصنع القرارات وترتيب الأولويات والعاجلات من الأمور.
لقد رأفت به وقد تقدم به العمر وهو يصر على البذل والعطاء بنفس الوتيرة، بل أشد. كانت الستة أشهر الأخيرة صعبة ومؤلمة جدا - أن تجد شخصا لا يقوى على التعبير عن مشاعره بعد أن كان صوته يملأ المكان. كانت فترة صعبة على عمي الأستاذ الدكتور عبدالعزبز العلي النعيم حفظه الله، وصعبة على أخي المهندس علي، وعلى أختي الأستاذة الدكتورة الطبية لولوه وأختي منال اللتين تشرفتا بملازمته ورعايته ليلا ونهارا، وصعبة علينا جميعا أن نراه صامتا. ورغم أن الإعياء نال منه لكنه كان يصر على استضافة محبيه ويريدهم أن يحضروا مرارا وتكرارا رغم أنه يعجز عن الكلام والحركة، كان صابرا ومحتسبا الأجر والمثوبة من عند الله، يقرأ القرآن والصحف يوميا كعادته لم يتركهما إلا بعد أن غاب عنا.
سنفخر، وسنزهو، بذكراك العظيمة، سيدي.
فأنت ترقد الآن في حضن حسناء العواصم.
عاصمة نمت وترعرعت في كَـنَف رجال، أنت منهم.
حتى غدت بيتا لملايين عديدة من البشر.
عاصمة ولا كل العواصم.
وأبُ طَبع اسمه في سجل العظماء.
أسأل الله عز وجل أن يرحمه ويغفر له ويتجاوز عنه ويتقبله قبولاً حسناً وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ويجعل ما أصابه تكفيراً له وزيادة له في حسناته ورفعة لدرجاته ويجبر قلوبنا.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}..
** **
- د. عزيزة بنت عبدالله النعيم