د. محمد بن أحمد غروي
تشهد العلاقات بين روسيا والعالم الإسلامي تحولاً نوعياً في سياق النظام العالمي المتعدد الأقطاب. قبل أيام، عُقد مؤتمر دولي بارز، يهدف إلى استشراف آفاق جديدة للتعاون بين الطرفين في مجالات حيوية تشمل الأمن، التمويل الإسلامي، والتفاهم بين الثقافات والأديان، وهي تأتي امتداداً لمؤتمر جدة 2021، الذي ركز على تعزيز الحوار حول القيم الثقافية والروحية المشتركة، وترسيخها كقوة ناعمة تواجه تحديات العالم الحديث.
من اللافت أن تستضيف ماليزيا هذا الحدث، خاصة مع توجهها الواضح شرقاً وتطلعها لأن تصبح مركزاً للتكنولوجيا الروسية المتقدمة، وهو تطلع يتماشى مع استراتيجيات روسيا الجديدة لتعزيز علاقتها بالعالم الإسلامي بعد تراجع علاقاتها مع الغرب، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الإسلامية أكثر من 150 مليار دولار، وهو رقم يعكس الإمكانات الضخمة لشراكة اقتصادية وسياسية تتجاوز المصالح الآنية، لتصل إلى بناء منظومة تعاون مستدامة قائمة على الاحترام المتبادل والتكامل الاستراتيجي. في خضم هذا الزخم، تأتي المملكة كركيزة أساسية في تعزيز هذا التوجه، بوصفها قائدة للعالم الإسلامي، وتتمتع بمكانة خاصة تجعلها قادرة على لعب دور محوري في توجيه العلاقات الروسية الإسلامية نحو تحقيق أهداف أكثر شمولاً.
السعودية ليست فقط قلب العالم الإسلامي، بل أيضاً دولة ذات تأثير عالمي، تجمع بين الرؤية التنموية الطموحة التي تجسدها رؤية 2030، والقدرة على بناء جسور بين الشرق والغرب، ما يجعلها شريكاً استراتيجياً لروسيا في هذا السياق. إن تجربة السعودية في الترويج للتمويل الإسلامي وتطوير مشروعات اقتصادية عابرة للحدود يمكن أن تكون نموذجاً يُحتذى في تعزيز التعاون الروسي الإسلامي، ومن خلال استثمارها في الابتكار وريادة الأعمال، يمكن لها أن تساهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر انفتاحاً وشمولية، تدعم توجه روسيا نحو تنويع شراكاتها الدولية.
من أبرز التوصيات التي خرج بها المؤتمر الأخير، كان تعزيز التعاون في التعليم والبحث العلمي بين الجامعات الروسية ونظيراتها في العالم الإسلامي، ويحمل هذا الجانب أبعاداً استراتيجية تتجاوز حدود التعاون التقليدي. التعليم، بطبيعته، هو المحرك الأساسي للتغيير، وهو القادر على بناء جيل جديد من القادة والمفكرين الذين يدركون تعقيدات العصر ويعملون على توظيف التنوع الثقافي كقوة دافعة للتقدم.
هنا، يمكن للسعودية أن تلعب دوراً محورياً عبر جامعاتها المرموقة ومراكزها البحثية التي تُركز على الابتكار والتكنولوجيا، وشراكتها مع روسيا في هذا المجال ليست مجرد فرصة اقتصادية، بل هي استثمار طويل الأمد في بناء مستقبل مشترك قائم على المعرفة والتكنولوجيا.
مع تصاعد التحديات الدولية، مثل التغيرات المناخية والأزمات الجيوسياسية، يبرز مفهوم التعاون متعدد الأطراف كضرورة استراتيجية، والمبادرات التي تعزز الحوار بين الثقافات، مثل مجموعة الرؤية الاستراتيجية «روسيا والعالم الإسلامي»، توفر منصة مثالية لتطوير رؤى مشتركة حول هذه القضايا.
وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا لتوسيع نطاق تعاونها مع دول جنوب شرق آسيا، مثل ماليزيا وإندونيسيا، تبدو السعودية في موقع فريد يمكنها من بناء جسور جديدة بين الأطراف، استناداً إلى تجربتها في تعزيز الحوار الحضاري والريادة الإقليمية.
في الختام، يمكن القول: إن العلاقة بين روسيا والعالم الإسلامي ليست فقط شراكة آنية، بل هي فرصة لبناء نموذج جديد للعلاقات الدولية، يقوم على التعددية والاحترام المتبادل، وهو ما يتطلب جهوداً جماعية ومبادرات مبتكرة تستثمر في الإنسان قبل كل شيء.
كسعودي متخصص، أرى أن دور المملكة يتجاوز الوساطة التقليدية، ليشمل قيادة حوار حضاري عالمي يعكس القيم الأصيلة للإسلام وروح العصر في الوقت نفسه، وتمثل هذه الشراكة خطوة نحو مستقبل مشرق لعالم أكثر تنوعاً وتكاملاً.