د. محمد بن أحمد غروي
التراث الثقافي، كما تعرّفه منظمة اليونسكو، لا يقتصر على المعالم الأثرية والمواقع التاريخية، بل يشمل التراث الثقافي غير المادي الذي يتجسد في التقاليد والتعبيرات الحية التي ورثتها الأجيال عن أسلافها، مثل الفنون الشعبية، والطقوس والممارسات الاجتماعية، والمعارف المتعلقة بالطبيعة والكون، والحرف التقليدية.
هذا النوع من التراث يلعب دورًا محوريًا في تعزيز الحوار بين الثقافات، وتكريس قيم الاحترام المتبادل، وتقوية الشعور بالهوية الوطنية والاعتزاز بها.
في هذا السياق، تعد دول رابطة آسيان (دول جنوب شرق آسيا) نموذجًا يحتذى به في كيفية الحفاظ على تراثها الثقافي غير المادي، فقد أدركت هذه الدول مبكرًا أهمية هذا الإرث باعتباره جزءًا أصيلًا من هويتها الثقافية وتاريخها العريق، وحرصت على إدراج عناصره في قائمة التراث الثقافي العالمي، وعملت على حماية هذا الموروث من الاندثار، بوصفه مصدر إلهام لتماسك شعوبها وتعزيز روابطها الثقافية واللغوية. جهود آسيان في حماية التراث الثقافي غير المادي حققت نجاحات ملموسة، حيث أعلنت منظمة اليونسكو في العام الماضي إدراج 41 نشاطًا وفنًا من دول الرابطة في قائمة التراث الثقافي غير المادي، ومن بين أبرز هذه الإنجازات، إدراج فن الأداء الماليزي التقليدي «ميك مولونج»، الذي يجمع بين التمثيل والغناء والرقص، كتراث يحتاج إلى حماية عاجلة، كما تم الاعتراف بنسيج «آكلان بينا»في الفلبين، المصنوع يدويًا من ألياف أوراق الأناناس، باعتباره نموذجًا للحرف اليدوية التقليدية التي تُنقل عبر الأجيال.
ومن إندونيسيا، أدرجت اليونسكو «الجامو»، وهو تقليد علاجي بالأعشاب يعود إلى القرن الثامن، ويعتمد على استخدام النباتات المحلية لتعزيز الصحة والمناعة.
وفي تايلاند، حظي احتفال «سونغكران» السنوي، الذي يرمز إلى بداية العام الجديد ويُجسد قيم التطهير والتبجيل، بتقدير عالمي كجزء من التراث غير المادي. أما في فيتنام، فقد تم إدراج رقصة «X?e» التقليدية، التي تعبر عن أنشطة الحياة والعمل، باعتبارها أحد رموز الثقافة الفيتنامية. ولم تتوقف جهود آسيان عند ذلك، فقد شملت حتى ثقافة الباعة المتجولين في سنغافورة، وأحد أشكال الفنون القتالية الكمبودية، ما يعكس التزام هذه الدول بحماية كل مظاهر تراثها.
هذه التجربة المميزة لدول آسيان تعكس وعيًا كبيرًا بأهمية التراث الثقافي غير المادي كوسيلة للتواصل بين الأجيال، وتعزيز التنوع الثقافي، وتحقيق التنمية المستدامة، وهو درس يمكننا الاستفادة منه في المملكة العربية السعودية، التي تمتلك إرثًا ثقافيًا غير مادي غنيًا ويمتد لآلاف السنين.
مع ترؤس ماليزيا لرابطة آسيان في العام المقبل، يمكن أن يكون هناك تعاون ثقافي يعرّف شعوب آسيان بتراثنا الوطني الغني، خاصة أن هذا التراث يُعد وسيلة فعالة لتعزيز الحوار الثقافي والحضاري بين الشعوب.
ختامًا، إن الاستثمار في حماية التراث الثقافي غير المادي لا يعزز فقط هويتنا الوطنية، بل يسهم في تعزيز صورتنا الذهنية على المستوى الدولي، ويعكس للعالم جوهر ثقافتنا العريقة، وثراء تاريخنا الممتد. فكما نجحت آسيان في حماية إرثها الثقافي، يمكننا أيضًا أن نُبرز تراثنا كجزء لا يتجزأ من التراث الإنساني العالمي.