د. محمد بن أحمد غروي
في عصر الثورة الرقمية، يتزايد اعتماد الاقتصادات العالمية على التكنولوجيا كوسيلة لتحقيق النمو والاستدامة، ويشكل الاقتصاد الرقمي العمود الفقري لهذا التحول، ويتجاوز الحدود التقليدية ليشمل الأفراد، الشركات، والعمليات من خلال التقنيات الرقمية المتقدمة، وتعد منطقة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وتقف اليوم أمام تحدٍ كبير يتمثل في دمج الذكاء الاصطناعي ضمن استراتيجياتها الاقتصادية الرقمية. تستمد رابطة آسيان قوتها من التركيبة السكانية الشابة والمتصلة رقميًا، ما يمنحها ميزة تنافسية تدعم اقتصادات دولها لتحقيق مستويات نمو مبهرة. ووفقًا لتقارير منتدى الاقتصاد العالمي، من المتوقع أن تصل آسيان إلى المرتبة الرابعة عالميًا كأكبر اقتصاد بحلول عام 2030، مع تقدير قيمة اقتصادها الرقمي عند تريليون دولار. ومن خلال اعتمادها على اتفاقيات اقتصادية إقليمية متقدمة، تسعى الرابطة إلى تعزيز التحول الرقمي وتوحيد الجهود بين دولها.
الخطوة الإطارية للاقتصاد الرقمي (DEFA)، التي أقرتها آسيان مؤخرًا، تمثل تحولًا مهمًا لتوحيد الجهود الإقليمية نحو تحقيق اقتصاد رقمي مترابط وآمن، يشمل جميع القطاعات، والتي تستهدف مضاعفة قيمة الاقتصاد الرقمي إلى 2 تريليون دولار أمريكي، وهي تركز على عناصر محورية مثل المدفوعات الرقمية، وتدفقات البيانات، والتجارة الإلكترونية عبر الحدود، ما يعزز من مكانة آسيان كمحرك رئيسي للاقتصاد العالمي.
تُعد دول مثل سنغافورة وإندونيسيا وفيتنام أمثلة ملهمة على كيفية تسخير الاقتصاد الرقمي لتحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة. ففي سنغافورة، يشكل الاقتصاد الرقمي 17.7 % من الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعله قطاعًا موازيًا للتصنيع، بينما يتوقع أن تصل مساهمة إندونيسيا في الاقتصاد الرقمي إلى 366 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030. وفيتنام، التي تعتبر التجارة الإلكترونية أحد محركاتها الرئيسية، تستهدف تحقيق 63 مليار دولار في سوق التجارة الإلكترونية بحلول 2030، ما يمثل أكثر من 60 % من اقتصادها الرقمي. على الرغم من هذه النجاحات، تواجه آسيان تحديًا كبيرًا يتمثل في دمج الذكاء الاصطناعي كعامل رئيسي لتعزيز الاقتصاد الرقمي في المنطقة، لتحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية، لكنه يواجه أيضًا عقبات معقدة.
تكاليف تطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي تمثل أيضا تحديًا كبيرًا، ولا سيما للدول ذات الاقتصادات النامية، كما أن قلة الكوادر البشرية المؤهلة في مجالات البرمجة، وتحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي تشكل عائقًا إضافيًا، إلى جانب الحاجة إلى سياسات حكومية متقدمة تدعم الابتكار وتحمي البيانات وتوازن بين الأمن والخصوصية.
لضمان نجاح التكامل بين الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، تحتاج دول آسيان إلى استراتيجيات مبتكرة تتجاوز التحديات الحالية، ويتعين عليها الاستثمار في التعليم والتدريب لتأهيل القوى العاملة، وتعزيز التعاون الإقليمي لتبادل المعرفة والخبرات، وتوفير برامج دعم للشركات الناشئة والمبتكرين، فضلاً عن تطوير أطر تنظيمية شاملة تدعم التجارة الرقمية وتحمي خصوصية المستخدمين.
إن آسيان تقف اليوم على أعتاب مستقبل رقمي مبهر، ولكن دمج الذكاء الاصطناعي ليس مجرد خيار إضافي، بل هو ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية النمو في عالم يزداد اعتمادًا على التقنية، والتحدي الآن ليس فقط في تسخير الذكاء الاصطناعي، ولكن في توظيفه بشكل يحقق مستقبلًا أكثر إشراقًا واستدامة لشعوب ودول آسيان، في النهاية، يتطلب النجاح رؤية شاملة تستند إلى الابتكار، التعاون، والاستدامة، لتصبح آسيان نموذجًا عالميًا للتنمية الاقتصادية الرقمية المتقدمة.