حامد أحمد الشريف
القطّةُ ذات الألوان الثلاثة ظلّت طوال سنوات تقيم رابطًا شَرْطيًّا بين فتح الباب والطعام الذي يأتيها من فائض أطعمة البيت.
اقتربتِ اليومَ من سيّارة العائلة، وانتظرتْ تحتها قليلًا، لم تجد من يناديها ليقدّم لها شيئًا ممّا اعتادت عليه، فألقتْ نظرةً بمواء حزين نحو الباب. ظلال تدخل وتخرج، والقطّة التي لوّنها الانتظارُ، ترى أمورًا غريبةً تحدث مع حركة الأقدام الداخلة والخارجة عبر الباب، في النظرة الأخيرة، شاهدت الرجل يقوم بتسليم مفاتيح البيت، ويستعدّ للمغادرة النهائيّة للحي.
القطّة ذات الألوان رأت سيّارةَ نقْلِ الأثاثِ تغادر الحي، نهضتْ، مسحت بطنها بإطار السيّارة، وابتعدتْ مغادِرةً في انطفاء.
ظافر الجبيري
لا أعلم سرّ الحزن العظيم الذي يرتسم على وجوه القطط في كلّ أحوالها... وهي تلعب تبقى حزينة، وهي تقترب منك وتلعقك بلسانها، تجد نظراتها لا تختلف عن سابقتها، إذ لا فرحة ولا ابتسامة تعزّز شعورها الداخليّ الذي تفضحه أفعالها، بينما يبقى وجهها صامتًا لا يُقرأ فيه غير الحزن والكآبة؛ حتّى مواؤُها حزين في كلّ أوقاته، إن أحبّت وإن كرهت، إن خافت وإن تودّدت... عندما يكون هذا وصف القطّة فإنّ القلم يحتاج لمعجزة حتّى يستطيع رسم شعورها ويوظّفها داخل مشهد ما ليصنع منها حكاية إبداعيّة...
أنا على يقين أنّ المؤلِّف يدرك كلّ ذلك، وأراد أن يبرهن على إعجاز مداده الثريّ، فتعمّد أن يصنع من هذا الكائن الغامض، أو لنقل الجميل والحزين، دراما نستلهم منها العِبَر...
حسنًا، لن أتوقّف كثيرًا عند الإبداع في رسم صراع هذه القصّة وحبكتها، وتنامي عقدتها وحلِّها، وكتابتها الأدبيّة الرائعة، وإنّما سأذهب مباشرة باتّجاه تلوُّن القطّة بألوان الانتظار، حسب وصف النصّ... بالفعل، الانتظار ينعكس علينا، يغيّر سحنتنا، وحتّى ألواننا، كما هو الحال مع الفرح والحزن وكلّ مشاعرنا التي يمكن قراءتها على صفحة وجوهنا؛ ولعلّ آثار هذا الانتظار القاتل تنسحب على كلّ الكائنات، فهو مؤلم جدًّا، حتّى أنّ النهاية، مهما كانت، تصبح أقلَّ ألمًا منه، وقد نطلبها ونسعى إليها، رغم مرارتها، للتخلُّص منه، كونه أشدّ سقمًا وإيلامًا منها... لقد ذكر المؤلِّف كلّ ذلك في تلك العبارة البسيطة، وترك لنا قراءتها بطريقتنا.
أمر آخر استوقفني، ذلك أننّا في كثير من الأحيان، نغادر والألم يعتصر قلوبنا، إذ لا شيء بأيدينا نفعله غير ذلك, فتكون مغادرتنا الحلّ الأمثل؛ وهو ما يتجلّى في السلوك الحيواني الفطري. فالقطط عندما يخذلها أصحابها، لا تملك سوى هذه الوقفة الحزينة التي وقفتها هذه الهرّة ماسحة جسدها بإطار السيارة التي ستقلّ سكّان الدار التي نشأت فيها بعيدًا عنها؛ لتغادر بعدها - مهما كان المصاب جللًا - وتنسى كلّ ما حدث.
أيطلب منّا هذا النصّ الإبداعيّ أن نتفاعل على هذا النحو مع ما يحزننا، أم أنّه يصف بتجرُّد أفعالنا ويطلب منّا مراجعتها؟
ورغم تأييدي لهذا المنحى في التعاطي مع الهموم، وشعوري بأنّه التصرّف الأمثل، كون الحياة لا تتوقّف على لحظة فرح أو حتّى لحظة حزن نعيشها، ولا بدّ أن يمضي قطارها مهما كانت أحوالنا، إلّا أنّني أعلم أيضًا أنّ إنزال مثل هذه القناعات على أرض الواقع لا يبدو بالسهولة التي نتحدّث عنها، فهو يعجزنا، يعجزنا تمامًا؛ إذ إنّنا غالبًا ما نبقى واقفين طويلًا نجترّ الألم ونرفض السعادة، وقد يشلّ الحزن أركاننا - كما قد يشلّها الفرح أيضًا - فيوقفنا عن العمل، بينما تمضى القطط وباقي الكائنات الحيّة في طريقها، بحزنها وألمها، وفرحها أيضًا وسعادتها التي لا تُرى على صفحة وجهها.
كانت ستكون هذه قراءتي ولن أضيف عليها حرفًا واحدًا لولا ذلك العنوان المثير: «قطّة بافلوف»، الذي قد يعتقد البعض لوهلة أنّه اسم القطّة، حتّى وإن كان غير مستساغٍ كاسم، إذ لا علاقة له ببيئتنا المحلّيّة التي ينتمي إليها كاتب النصّ، وكان منطقيًّا أن يستخرجه منها في حال كان اسمًا، فلِمَ لم يفعل؟ ولِمَ ابتعد عن تلكم الأسماء الدارجة المألوفة التي يطلقها أغلبنا على القطط؟ وتتشابه في ذلك كلّ المجتمعات واللغات العالميّة. وهو ما جعلني أتساءل: ماذا لو قرأ القصّة من لا يعرف سرّ هذا الاسم، وردّد في نفسه: من أين أتى بـ «بافلوف»؟ ولمَ جعله شاذًّا على هذا النحو؟
والأهمّ من ذلك كلّه، ألا يؤدّي جهله به إلى ضياع المعنى في حال نظر إليه على أنّه مجرّد اسم؟
بالطبع، أغلبنا يعلم أنّ ذلك غير صحيح، فـ»بافلوف» لم يكن مجرّد اسم للقطّة، وكان وجوده في العنوان متعمّدًا من المؤلِّف، لما له من دلالات سيميائيّة تتّصل بمحور الحكاية وصراعها الأساسي، وتؤدّي إلى فك شفرتها. ولا أظنّ المؤلِّف يحتاج لتذكيره أن لا حاجة لنا بتسمية القطّة إن لم يخدم الاسم النصّ، فالقصّة القصيرة جدًّا حسّاسة ودقيقة في مسألة المفردات، فلا تُقبل أيّ مفردة إن لم تكن موظَّفة داخل النصّ ولها دور محوريّ تنهض به؛ وهذا يعني أنّه من الأجدر الاكتفاء باستخدام مفردة «قطّة» وحدها للعنوان، أو كتابته على هذا النحو «القطّة»، ليصبح بذلك مناسبًا جدًّا لمدلولات الحكاية وقيمتها التي تحدّث عنها سابقًا، وانسحابها على سلوكيّاتنا الإنسانيّة. وهو ما قام به المؤلّف بالفعل، عندما أتى باسم عالم وظائف الأعضاء الروسي «إيفان بتروفيتش بافلوف» الذي اشتهر بنظريّة الاستجابة الشرطيّة التي فسّر من خلالها التعلُّم الشرطي، وأهّلته للحصول على جائزة نوبل في العام 1904م.، فكان حضور اسم «بافلوف» مبرّرًا إذا ما نظرنا إلى النصّ من زاوية صاحبه.
الآن وقد فهمنا مغزى العنوان الذي يرتبط بالفعل بالتجارب العلميّة التي قام بها «بافلوف» وقادته إلى وضع نظريّة الاستجابة الشرطيّة، ندرك سبب اختيار المؤلِّف للعنوان، الذي وظّفه لإيصال رسالة ترتبط بالاستجابة الشرطيّة التي ذكرها جهارًا في قوله: «رابطًا شَرطيًّا بين فتح الباب والطعام الذي يأتيها من فائض أطعمة البيت». وبذلك وضع لنا شاهدًا صريحًا يشير إلى المعنى المستهدَف.
والسؤال المهمّ هنا هو: هل الحكاية كلّها صُنعت لتذكيرنا بهذه النظريّة، أم للتباهي بثقافة المؤلِّف ومعرفته بهذه النظريّة المهمّة في علم النفس؟ باعتقادي، إنّ الحكاية تحتمل أبعادًا أخرى، والهدف منها ممتدٌّ بحيث يتخطّى القطّة وكلّ الحيوانات التي أجريت عليها تجارب علميّة مماثلة. فلا يعقل أن ينفق المؤلِّف جهده ووقته حتّى يخبرنا عن ثقافته التي يستطيع تمريرها من خلال حواراته ونقاشاته، أو حتّى يظهرها من خلال كتابات مقاليّة تحتمل كلّ ذلك، ولن يعترض عليه أحد إن فعل.
ذلك ما يقودنا إلى فهمٍ آخر لأبعاد الحكاية، وصراعاتها، ومدلولاتها، والرسالة التي تحملها... وهي يقينًا تتجاوز فرد عضلات المؤلِّف، وتحاول إطلاعنا على الفكرة الأساس التي كتبت القصّة من أجلها. هذه الفكرة أظنها تقترب من نظريّة «الجشتالت»، أو «الجشطالت» بالألمانيّة، وتعني «التكوين»؛ هذه النظريّة التي ظهرت على يد عالم النفس الألماني «ماكس ورثيمير»، وطوّرها لاحقًا عالم النفس الألماني «ولفجانج كوهلر» مع العالم الألماني «كورت كوفكا»، وقامت بعدّة تجارب افترضت الكلّيّة في الاستجابة السلوكيّة للمؤثّرات، وعارضت الشرطيّة الفرديّة والاستجابة للمحفّز فقط التي قال بها «بافلوف»، واقتصرت - في ما يبدو - على الجرذان والقطط والكلاب، ولم تصل للقرود الذين هم أقرب إلى السلوك الإنساني.
وينسب البعض للجشطالت تجربة «القرود الخمسة والموز» الشهيرة المنتشرة عالميًّا، والتي لم يتأكّد إسنادها إلى عالِم بعينه، فهناك من قال إنّها لعالم النفس الأمريكي الشهير «بور هوس فريدريك سكينر»، وإن كان «كوهلر» قد عرف بتجاربه المتعدّدة حول القرود، والشمبانزي منها تحديدًا، والأرجح أنّها له، إن لم تكن مختلقة وخياليّة، وُظِّفت لإيصال أفكار معيّنة، وقد قال البعض بذلك، والشاهد هنا لمن لم يسمع من قبل بهذه النظريّة التي انبثقت من علم النفس ووظِّفت بشكل كبير في علم الاجتماع ودورات تطوير الذات في شقّها الإداري والعملي، أّن هذه التجربة أجريت على خمسة قرود وضعت في قفص فيه سلّم تدلّت فوقه حبّات من الموز المنضود، وكان صاحب التجربة يقوم برشّ الماء البارد على كلّ القرود كلّما حاول أحدها ارتقاء درجات السلّم لتناول الموز، ممّا دفعها للتوقّف عن محاولة الوصول للموز، ومنع كلّ من تُسوِّل له نفسه الصعود، وإيذائه، للتوقّف عن ذلك، حمايةً لهم جميعًا. وتبع ذلك منع كلّ من يحاول ارتقاء السلّم من القرود الجدد المستبدَلين، خشيةً من الماء البارد. المفارقة هنا أنّ المنع استمر رغم توقُّف رشّ الماء البارد واستبدال القرود تدريجيًّا، حتىّ عندما أصبح القفص لا يحوي أيّ قرد من القرود الخمسة التي بدأ بها التجربة، وبالتالي فإنّها لا تعرف السبب المانع من صعود السلّم وتناول الموز, فكان في التجربة إشارة واضحة إلى سياسة القطيع عندما يستسهل الانقياد للتصرّفات المتداولة دون إشغال نفسه بالتفكير في أسبابها، أو تطبيق نظريّة الشرطيّة في سلوكيّاتنا، بطريقة دائمة، عندما نلتفت للمؤثّر وننساق خلف سلوك الجماعة غير المبرَّر. وهو ما أراه لا يبتعد كثيرًا عن نظريّة الشرطيّة لبافلوف التي تستديم حضور المؤثّر وتربطه بالإجابة؛ ولقد ذكر في إحدى تجاربه أنّ أحد الكلاب، عندما أجريت عليه التجربة، كان يسيل لعابه بمجرّد رؤية الشخص الذي اعتاد تقديم الطعام له في وقت من الأوقات، حتّى لو لم يأته بالطعام, فإفراز الغدد اللّعابيّة للّعاب ارتبط بالشخص ولم يرتبط - كما هو معلوم فسيولوجيًّا - برؤية الطعام، أو شمّ رائحته، أو تذوّقه؛ ممّا يوصلنا - إن غصنا أكثر - إلى العقل الباطن وكيفيّة توظيفه لتفسير كلّ هذه الشواهد المجرّبة، كونه هو المعنيّ بردود أفعالنا اللّاإرادية أو الاعتياديّة غير المبرَّرة، إذ عادة ما يدفعنا للربط في اتّخاذ القرارات حتّى لو اختلت المعطيات لاحقًا، أو الربط الاشتراطي الذي يستلزم حضور المؤثّر باستمرار وارتباطه بردّة الفعل. ومعلوم أنّ العقل الباطن فاعل في كلّ الحيوانات تقريبًا، بدرجة تكاد تقترب من السلوك الإنساني.
وبعيدًا عن كلّ هذه التفصيلات العلميّة التي لا علاقة لها بالأدب وفنونه كتابة ونقدًا، والمتعلّقة بتجارب السلوك الحيواني الذي ألقى بظلاله على علم النفس، وطوّره كثيرًا في العقود الأخيرة، نشير إلا أنّ النصّ أراد أن يفتح لنا نافدة لتذكُّر كلّ ذلك، وأغرانا بهذا الخروج الذي قد يكون مزعجًا للبعض، عندما وظّفه الكاتب لفهم الحياة بطريقة مختلفة؛ فتلك القطّة التي استسلمت لواقعها الجديد المجهول الذي قد يقضي عليها مستقبلًا بعد ابتعاد مَن كان يطعمها عنها بشكل مفاجئ؛ كان عليها - بداية - البحث عن مصادر أخرى للطّعام حتّى لا يهلكها قرار يتّخذه غيرها. وكان على الكلب - أعزّكم الله - عدم الالتفات إلى الشخص الذي يطعمه، والاهتمام فقط بالطعام المقدّم، حّتى لا يكون ارتباطه قاتله إن أحجم صاحبه عن إطعامه. والقرود كان عليها التفكير في الأسباب، بدل الانقياد الأعمى خلف سلوكيّات مبهمة لا يُعرف سببها، وكان عليها أيضًا الارتهان لتجاربها الشخصيّة وعدم اللالتزام بسياسات القطيع غير المبرّرة...
كلّ ذلك يقودنا، بالطبع، لاستيعاب الرسالة القيّمة التي حاول النصّ نقلها لنا، وتنطبق علينا جميعًا، إذ إنّ علينا عدم ربط مصيرنا بالآخرين مهما كانت قيمتهم، والبحث دائمًا عن مصادر أخرى نعتمد عليها في حياتنا، حتّى لا تُطفئنا قرارات لا علاقة لنا بها.
في الواقع إنّه نصٌّ نخبويٌّ بامتياز، وإن عابه بعض الشيء أنّ القارئ العادي قد لا يشغل نفسه بتتبُّع الإشارات والتجارب العلميّة وإسقاطاتها على سلوكيّاتنا المعتادة، ومدى استفادتنا منها، مكتفيًا من النصوص بما هو ظاهر وواضح الدلالة، أو ما يستلزم الاشتغال قليلًا على شواهد النصّ الحاضرة التي تحتاج لربطٍ واستنتاجٍ وتفسير، ولا شيء أكثر من ذلك. وهو ما يجعلني أقولها صراحة، بأنّني، على المستوى الشخصيّ، لا أحبّذ إقحام النظريّات العلميّة، والمعلومات الثقافيّة المتخصّصة، في القصّة، وإن من باب «المثاقفة» التي تأخذ هنا طابعًا سلبيًّا، كون القارئ العاديّ سيحتاج إلى بذل جهد إضافيّ في البحث والتقصّي، لا سيّما أنّها تستهدف متلقّين ليسوا من زبائن هذا النوع من الكتابات المتخصّصة؛ فالوصول إلى مفاتيح النصوص بهذه الطريقة يشكّل صعوبة ما، وقد لا يفلح في فكّ شفرتها معظم القرّاء، ما قد يتسبّب في صرفهم عنها وتقليلهم من شأنها، دون وجه حقّ، وفقدها قيمةً كان ينبغي أن تنالها. لذا، أرى أنّه كان من الأجدر الابتعاد عن منطوقات العلم النظريّ والتجريبيّ وأقطابه، والاعتماد بدلًا من ذلك على فحوى النظريّة، وخلاصتها النتائجيّة، واستخداماتها السلوكيّة، والإتيان بها في سياق السرد، لإيصال مدلولاتها، باستخدام أدب القصّة. الأمر نفسه ينسحب على النقد - كما ظهر في هذا السياق - وبذلك نكون قد أوصلنا رسالتنا من دون أن نخسر جمهورنا من القرّاء... ويظلّ هذا رأيًّا شخصيًّا، قد لا يتّفق معه من قرأ القصّة وأسعفته ثقافته على فهمها مباشرة، ولم يُعجزه «بافلوف» أو يشغله بتقصّي خبره.