حامد أحمد الشريف
أعجبتني كثيرًا عبارة استخدمها الناقد والأديب المصري المعروف الدكتور حسام عقل، مشيرًا إلى أنّها دارجة في عالم النقد، بحيث توصَف بها بعض الدراسات النقديّة السيّئة؛ وذلك عند حديثه عن بعض النقد المتداول حاليًا، والذي شبّهه بعربة القطار التي تمرّ في طريقها بعدّة محطّات حتّى وصولها إلى المحطّة النهائيّة، ولا تزيغ عن ذلك مطلقًا. جاء وصفه هذا بليغًا، إذ لخّص من خلاله المعضلة الأساسيّة والمهمّة التي نعاني منها في عالم النقد، أو في الحياة بعمومها، عندما تجد الناقد، رغم ما يحمله من شهادات عليا وما يشغله من مواقع أكاديميّة وما يملكه من خبرة تمتدّ لسنوات، لا يحسن قراءة الأعمال والحديث عنها، فضلا عن فهم عمقها المثري ودلالاتها الفكريّة والفلسفيّة؛ فيظهر كالتلميذ الملقَّن دون فهم وإدراك، أو، كما وصفه الدكتور عقل، يمتلك العلم بكلّ تفصيلاته لكنّه يفتقر إلى الذائقة التي لا قيمة لمبضع الناقد بدونها، أو أنّه فقدَ أمانة الكلمة مستخدمًا الآراء والعبارات الجاهزة التي يمكن إلصاقها بأيّ عمل أدبيّ دون قراءة وفهم أو سبر لأغوار النصوص.
ولعلّي أضيف إلى ما قاله الدكتور حسام عن الذائقة النقديّة، أنّه - في ظنّي - يصعب الحصول عليها بالدراسة الأكاديميّة وحدها، مهما تبحّرت واتّسعت وتجذّرت؛ فالدراسة الأكاديميّة تجعلك بالفعل مثل عربة القطار، تمرّ بمحطّات لا تربطك بها أيّ وشيجة، ولا يمكنك رؤية أيّ مشهد خارج المحطّة أو بعيدًا عن الطرق المحاذية والقريبة من القضبان التي تراها مسرعة لا يمكنك الوقوف على تفاصيلها وتبيُّن ملامحها؛ وهو ما يعني، في أفضل الأحوال، أنّ طريقك واحد في كلّ رحلاتك، وزاوية رؤيتك هي نفسها، ولن يختلف حديثك في كلّ مرّة رغم اختلاف المؤلّف والكتاب الموضوع على طاولة التشريح النقدي. وهذا ما نسمّيه بقولبة النقد أو الأقوال الجاهزة التي يمكن إلصاقها بأيّ مخطوطة، أو الصناديق المعدَّة سلفًا وعلينا حشر النصوص داخلها والتخلّص من بعضها إن لم تتواءم مع حجمها... وهو للأسف ما يقع فيه بعض النقّاد والمحكَّمين المتورِّطين في تقديم الدراسات النقديّة وتحكيم النصوص تماهيًا مع تخصّصاتهم، أو تجارتهم بها، دون شغف حقيقيّ يدفعهم للتميُّز والإبداع، وهو ما يجعلنا نشعر بالظلم الكبير الذي تتعرّض له بعض النصوص الإبداعيّة عندما يكون أمثال هؤلاء هم من يقرِّرون قيمتها في الجوائز وخلافه. ولا أظنّنا، وقد استشعرنا وجود أمثالهم في وسطنا الثقافي، إلا ونتفهّم ما يروِّج له بعض الكتّاب الناقمين على النقّاد عندما يصفونهم بالعجز عن الإبداع، ويتّهمونهم بالذهاب باتّجاه النقد الأيسر والأقلّ مؤونة ، وتوظيفه للنيل من المبدعين، والتقليل من قيمة أعمالهم، وربّما استهدافهم شخصيًّا!
وبالعودة إلى الذائقة النقديّة نجد أنّها تحتاج - يقينًا - لعوامل أخرى مهمّة لا علاقة لها بالدراسة الأكاديميّة والتخصّصات الجامعيّة، أومطالعة كتب النقد مهما بلغت أهمّيّتها، أو حفظ المدارس النقديّة عن ظهر قلب، ومناهجها المتعدّدة، واستيعاب قوانينها، وترديد مصطلحاتها الأجنبيّة، أو الاستشهاد بأقطابها من النقّاد العالميّين، وحفظ أقوالهم المأثورة في عالم النقد وإدراجِها في الدراسات أو الحوارات... إذ رغم قيمة العلم والمعرفة والمحفوظات، إن أُجيد استخدامها وتوظيفها لفرز النصوص والحديث عنها، إلّا أنّها لا تكفي وحدها لنهوض الناقد بدوره إذا لم يمتلك بعض الأدوات الأخرى المهمّة، كالقدرات العقليّة العليا التي تُعَدُّ أساسًا لا فكاك منه ولا يمكن بحال لأيّ ناقد النجاح بدونها، وهي تتمثّل بالذكاء والفراسة والنجابة والحصافة، والقدرة على التحليل والاستنباط والاستنتاج والربط والمقارنة، ورسم الدوالّ المعرفيّة، ووضع المعادلات الفهميّة، وربط كلّ ذلك بالمغزى الظاهر والخفيّ الذي يريده الكاتب أو يتمظهر فيه؛ كما يحتاج الناقد الحصيف إلى توظيف معارفه المتعدِّدة، وخبراته الحياتيّة المتراكمة والبعيدة عن تخصّصه الأساس، بتنوُّعها العلمي والثقافي والاجتماعي، وبما تشتمل عليه من تجارب مباشرة وغير مباشرة، ممتطيًا صهوتها لفهم النصوص موضع النقد، والوصول إلى معانيها العميقة، واعتماد كلّ ذلك للحديث عنها.
إنّ هذه الوظائف العقليّة العليا التي نتحدّث عنها ونجعلها حجر الزاوية في تأهيلنا للنقد، لا يمكن إكسابها للمتعلِّم بالدراسة مهما بلغت فعاليّة المواقف التعليميّة، وقدرات المعلّمين، وقيمة المناهج التي يدرّسونها والأساليب التربويّة التي يستخدمونها، فهي ملكات تُستنبت في مرحلة الطفولة المبكّرة، وتُصقل بالتجربة، وتؤتي أكلها في مرحلة الحصاد عندما نكون بحاجتها. وحريّ بنا القول إنّ أمثال هؤلاء النجباء غالبًا ما يكون النجاح حليفهم في الأعمال التي تتطلّب هذه القدرات ولا تعتمد على «الجهد العضليّ» فقط.
السؤال المهمّ هنا، هل القدرات العقليّة إذا ما اقترنت بالعلم والمعرفة الأكاديميّة والقراءات النقديّة المتعدّدة، كافية وحدها لإنضاج الناقد الأدبيّ وتأهيله لممارسة عمله النقديّ فعليًّا؟!
بالطبع الإجابة ستكون: «لا»، فكلّ ذلك لا يعني شيئًا، إذ لن تتشكّل الذائقة من خلاله - رغم أهمّيّته - إذا لم يقترن بتغذية قرائيّة عالية لكتابات نخبويّة تُستخدم عادة في فقه المقارنة التي لا غنى للناقد عنها؛ وسيكون لهذه القراءات قيمتها إذا درج على توظيفها أوّلًا بأوّل في محاولة فهم النصوص، وتبيُّن قيمتها، والحديث عنها، وإن لم يكن ذلك منشورًا ومشاهدًا؛ ولعلّه من الواجب القول هنا، إنّ غياب أيّ من هذه المقوّمات الخمسة التي يمكن تلخيصها في: علوم النقد الأكاديميّة، والقدرات العقليّة، والقراءات النخبويّة، والممارسة التجريبيّة والفعليّة، وقبل كلّ ذلك، القيم الأخلاقيّة، يجعل الوصف الوارد في القرآن الكريم (كمثل الحمار يحمل أسفارًا)، ينطبق على الناقد إن افتقر إلى أيّ من هذه المقوّمات؛ فحمل الأسفار دون الاستفادة منها التي لا تعني - كما هو معلوم - الأمّيّة أو عدم القراءة، وإنّما المقصود منه الفهم والتنزيل والعمل بما نقرأ، وهو ما قد يتشارك فيه الجاهل والمتعلِّم؛ فالجاهل لا يقرأ، والمتعلِّم إن كان لا يفهم ولا يطبِّق سيوصلنا إلى النتيجة نفسها، وهؤلاء - للأسف - نتعثّر بهم كثيرًا خلال مسيرتنا النضاليّة، ويُعرفون بسيماهم القائمة على التنظير والحديث المرسل، والانشغال بأنفسهم عن النصوص. هؤلاء يفشلون في إنزال محفوظاتهم على الكتب التي يقرأونها، ولا يحسنون توظيف خبراتهم النقديّة في تدوين القراءات الإبداعيّة الموازية التي ينتظرها الجميع منهم.
ومع أنّ هذا القول قد يغضب البعض، إلّا أنّه واقع بالفعل، والعجيب أنّنا قد نلحظه لدى نقّاد لهم قيمتهم ووزنهم! ولعلّ ما دفعني للخوض في هذا الحديث موقفٌ شخصيّ تعرّضت له، عندما وجدت ناقدًا كبيرًا يقع في فخٍّ يُنكَر حتّى على القارئ العادي الوقوع فيه، حين استفزّته أيّما استفزاز «سارة» بطلة روايتي السرديّة التخيّليّة «مقتل دمية»، التي أجادت - بشهادة العديد من النقاد والقرّاء - تقمّص الشخصيّة المنتخبة، وكانت صادقةً ومقنعة في تلبُّسها، حتّى إنّ الناقدة المصريّة المعروفة الأستاذة الدكتورة سحر الشريف، بعد اطّلاعها عليها، أفردت ورقة نقديّة كاملة للحديث عن الأدب النسوي وإمكانيّة نهوض الرجل به، إذا ما اعتبرنا المتن هو الفيصل في ذلك وليس جنس المؤلِّف، مستشهدة بجزئيات كثيرة من الرواية، أطرت من خلالها قدرة الكاتب على بناء شخصيّة أنثويّة بهذا الصدق والعمق والقوّة؛ وعرّجت على فكرة التقمُّص، مشيرة إلى إمكانيّة لعب الأدوار المختلفة إن تحقّقت معايير معيّنة ذكرتها في ورقتها الجميلة التي كانت بحقّ مثالًا يُحتذى في الاشتغال النقدي على النصوص، والخروج بنصوص إبداعيّة موازية لا تقلّ قيمةً عن النصوص الأصليّة موضع النقد.
وبالعودة إلى ذلك الناقد الذي اتّخذ موقفًا شخصيًّا من البطلة دفعه - في ما ظهر لي ولغالبيّة من حضر تلك الأمسية - إلى التخلّي عن كلّ أدواته النقديّة، والدخول في صراع وجوديّ مع بطلة العمل «سارة»، وبالتالي مع الكتاب، وصولًا إلى المؤلِّف، بغية إسقاط العمل، وذلك انتقامًا من المتن الروائي الذي لم يعجبه، إذ شعر أنّه يقدِّم صورة سيِّئة عن المجتمع العربي في موازاة الصورة الغربيّة الناصعة البياض التي اعتقد أنّ الكاتب يسوِّق لها! كما استعرض الإهداء بسخرية، علمًا أنّه لا يعَدّ في العرف النقدي ضمن العتبات الأساسيّة والمهمّة لتفسير النصوص، بل يُعتَبر ترفًا من الكاتب إن أقحمه في هذه العتبات ووظّفه لتحقيق أهدافه، فيقوّي النص إن وُظِّف بشكل جيّد لكنّه لا يضعفه مطلقًا إن لم يكن كذلك!
الغريب في الأمر أنّ هذا الناقد تخطّى نقد العمل إلى النقد الشخصيّ متعمِّدًا التجريح بي لكوني كاتب الرواية، إذ سألني بتهكّم إن كنت أحمل مواصفات بطلة العمل أو كنت أعاني من اضطراب نفسي انعكس على العمل، لكون البطلة أظهرت معاناتها من هذه الاضطرابات التي استفزّته أيّما استفزاز، ودفعته لاتّخاذ موقفه المعادي لها! فكان مستغرَبًا أوّلاً إنزال الناقد لعمل سرديّ تخيّليّ كُتِبَ بضمير المتكلّم الأنثوي، على واقع الكاتب، وهو أمر مرفوض كلّيًّا، ولا يُقبل طرحه حتّى من القارئ العاديّ! كذلك انجراره خلف مشاعره السلبيّة، وعدم استطاعته الفصل بين حضوره كقارئ عاديّ وعلاقته الشخصيّة بالمحتوى، وتخلّصه من كلّ ذلك والتجرّد من رغباته ولؤم نفسه ومشاعره عند الخوض في الحديث عن العمل من الجانب النقديّ الذي من أبجديّاته إبعاد المشاعر كلّيًّا في تقييمنا للأعمال والحديث عنها، سواء أكان ذلك مع النصوص أو مع كاتبها، وتجنُّب ربطها بواقع الكاتب طالما لم يصرِّح بذلك ولم يُدرج عمله ضمن السِّيَر الذاتيّة باشتراطاته المعروفة.
ويعظم هذا الأمر عندما يكون القارئ ناقدًا أكاديميًّا له وزنه، فلا يُقبل منه هذا الخلط العجيب الذي أسقطه في غيابة جبّ نوازع النفس ومهالكها! فما الذي يدعو ناقدًا بهذه القيمة لعدم تحييد مشاعره؟! في وقت كان ينبغي عليه حمل شيءٍ من الوعي القرائيّ الذي يُفترض أن تتكفّل به مطالعاته المتعدّدة ودراساته المتراكمة، بحيث يصبح معها مدركًا تمامًا أنّ نجاح السارد في صنع شخصيّة مؤثِّرة تدفعنا لبناء مشاعر حقيقيّة معها، بغضّ النظر أكانت سلبيّة أم إيجابيّة، يُعَدُّ نجاحًا كبيرًا للسارد أو المؤلِّف، والشواهد أكثر من حصرها في هذا المجال؛ يكفي الاستشهاد برواية الطيّب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» التي أَوردها ذلك الناقد من باب التقليل من قيمة العمل، في حديثه عن صراع الحضارات، وافتتانه بهذه الرواية التي أجادت - حسب وصفه - الحديث عن هذا الصراع. ولعلّي أذكّره هنا أنّ هذه الرواية أظهرت الرجل السوداني أيضًا بشكلٍ غير جيّد، وربّما تجاوزت الحدود في أكثر من موضع، في وصفها حياة الرجل الشرقي المسلم في الغرب، وانتهاكه لكلّ المحرّمات؛ وتناولت المجتمع السوداني بطريقة لم تكن منصفة في نظر كثيرين، ما جعل بعضهم ينظر إليها من هذه الزاوية، ويسقطها في الميزان السرديّ، ويتّهم المروّجين لها بالمؤامرة؛ ولم يكن ذلك مقبولًا بطبيعة الحال، فالأفكار لا تُسقط الأعمال السرديّة، مهما كان جنوحها، ولعلّه سيكون أوّل المدافعين عن هذه النظريّة في ظلِّ ما أبداه من إعجاب بها، وستكون حجّته الدامغة أنّ المحتوى الفكري والأيديولوجي والفلسفي لا يُحتكم إليه في قبول الأعمال السرديّة أو رفضها، وإنّما يتمّ الحديث عن تجاوزاته خارج العمل؛ فكان بطل العمل مصطفى سعيد مقبولًا سرديًّا حتّى لمن كره أفعاله ونقم على شخصيّته المستفزّة.
ولو لم يكن ذلك الناقد الناقم يتبنّى وجهة النظر هذه لما أمكنه تسويق العمل وامتداحه في بيئة محافظة ترفض هذه الصور التي نقلها لنا الطيّب صالح عن الدعارة وشرب الخمور والتفسُّخ الأخلاقي الذي اشتملت عليه السرديةّ وجعلته مستساغًا ومقبولًا، ولم ينجُ منه تقريبًا أيٌّ من أبطال العمل في الداخل والخارج. وسبقه إليها نجيب محفوظ إذ كان في بعض من رواياته مصادمًا للمجتمع، معارضًا لمسلّماته الاجتماعيّة وحتّى الدينيّة؛ ولو لم يفعل نجيب محفوظ شيئًا غير استظهار سوء المجتمع وعرضه في سرديّاته، وتغاضيه عن الجوانب الإيجابيّة التي تفوقه بكثير أو ذكرها بشكل عرَضيّ، لكفى. وهو ما قام به إحسان عبدالقدوس - رحمهم الله جميعًا - عندما أفرد رواياته وقصصه القصيرة للحديث عن جوانب معيَّنة في المجتمع المخمليّ، يرفضها كثيرون من الشعب المصري، ولا يتمنّون ذيوعها وانتشارها.
ومع ذلك، لم نستطع التقليل من قيمة أولئك الكتّاب، أو انتقاص أعمالهم، إذا نظرنا إليها بالميزان السردي الذي لا يُلقي بالًا إلى ماهيّة الأفكار ومغازي الأعمال العميقة إن التزمت بقوانين السرد الحديثة التي لم تعد تحفل بتعدُّد الشخصيّات وكثرتها، وطول الفترة الزمنيّة التي يشغلها الصراع، والتي ليس منها - يقينًا - واقعيّة الأحداث ومنطقيّتها وانسجامها مع رغباتنا الشخصيّة، طالما استطاع الكاتب تبرير تجاوزاته وتمريرها؛ بل يُعدّ من عناصر قوّة الأعمال السرديّة قدرتها على خلق صراع كبير يصنع لنا ملحمة عظيمة في زمن قصير جدًّا ومع عدد محدود من الشخصيّات، وهو ما يعجز عنه كثير من الكتّاب ممّن يرون في السرد مجرّد حكاية سطحيّة يمتدّ صراعها لسنوات، وتخلو من العمق؛ بينما لم يعد السرد الحديث يلقي بالًا إلى مثل هذه التأصيلات المقيِّدة، وينظر إلى السرد من خلال بنائيّته وأساليبه، وقدرته على الإمتاع، والتزامه بالقوانين الأساسيّة التي لا فكاك منها، وقفزه على ما يمكن القفز عليه، وخلق الأصالة التي لا قيمة للأعمال بدونها.
ولعلّنا نشير هنا إلى عدد من الكتّاب الذين برعوا في مثل هذه الكتابات النخبويّة، كالكاتب الألماني الذائع الصيت فرانز كافكا، الذي أطلق هذا النوع من الروايات النفسيّة المستفزة في العام 1915م، في روايته الشهيرة «المسخ»؛ وأظنّ أنّنا بغنى عن الحديث عنها لشهرتها وتداولها على نطاق واسع. تبعه في هذا النوع من الكتابات الكاتب الأمريكي جيروم ديفيد سالينجر، الذي بهر العالم برائعته «الحارس في حقل الشوفان» التي نشرت في العام 1951م، رغم حجم الغضب الكبير الذي ظهر في كتابتها، واقترابها كثيرًا من السيرة الذاتيّة، واعتمادها على البطل الأوحد تقريبًا، بمعنى مصادمتها لكلّ قوانين السرد القديمة المعروفة، رغم ظهورها في المرحلة الأكثر التصاقًا بكلاسيكيّات الأدب السردي، وتشريع قوانينه، واعتمادها كقوالب يحاكَم السرد من خلالها؛ ومع ذلك، نجحت أيّما نجاح، وتُرجمت إلى كلّ لغات العالم تقريبًا، ويباع منها – في ما أعلم – 250.000 نسخة سنويًّا. وللعلم، لم تتميّز هذه الرواية بجودة كتابتها الأدبيّة، بل وصفت لغتها بالعاميّة، وتميّزت باحتوائها على مفردات سوقيّة جارحة للحياء، متجاوزةً الأخلاق، ولا يليق كتابتها وتسويقها في المجتمع أكان للقرّاء العاديّين أو للأدباء والمثقّفين؛ ومع ذلك، قُبلت لأنّها تميّزت بفكرتها الصادمة التي انقسم القرّاء حولها. والشاهد هنا، أنّ كل تلك الحيثيّات لم تُسقطها، ولم يتّخذ النقّاد من بطلها «هولدن كولفيلد» عدوًّا شخصيًّا يعادونه، رغم بذاءته وتجاوزاته الأخلاقيّة، بل نظروا إليه بعين الإنصاف والعدل التي تعرف تمامًا معنى الإبداع، ولا تحاكم الأعمال من خلال أفكارها.
وعلى المستوى العربي، جسّدت هذه الفكرة - وإن على استحياء - بثينة العيسى، في روايتها الجميلة «عائشة تنزل إلى العالم السفلي»، وفيها تصوير للصراع النفسي الذي تعيشه أمٌّ فقدت ابنها في حادث سير؛ ولم يكن معها في هذا العمل السردي سوى زوجها وعائلتها القريبة، وأدارت كلّ العمل من خلال الهواجس التي تعتريها وتعيدها إلى الحدث نفسه، مستعينة بالمنولوج الداخلي؛ ومع ذلك، عُدَّ العمل من أعظم الأعمال التي قدّمتها الكاتبة، لقدرتها على التبئير بطريقة رائعة، وخلق صراع كبير من حدث صغير.
وهناك بالطبع الكثير والكثير من الأعمال التي يحسن الاستشهاد بها في هذا الباب، لولا ضيق المساحة، وهو ما يجعلني أُبدي استغرابي الكبير وأنا أرى كلّ ذلك، وأظنّ أستاذ النقد هذا يعلمه جيّدًا، فأستهجن عدم تحرّجه من الوقوع في فخّ هذه المشاعر، واندفاعه خلفها، والنظر إلى العمل كاملًا من خلالها! وهو الأمر الذي يوقعنا في حيرة بين خيارات يصعب ترجيح أحدها، فلا يحسن القول، إنّ الرجل عجز عن توظيف أدواته النقديّة؛ ولا يمكن القول إنّه كان مدفوعًا لتصفية حسابات شخصيّة معي، فليس بيني وبينه ما يدعوه لذلك؛ ولعلّ الأرجح أنّها حالة نفسيّة قد تعترينا جميعًا، تُفقدنا بوصلة ردود أفعالنا المنطقيّة وتُنسينا كلَّ ما تعلّمناه.
لقد تمنّيت في تلك الأمسية، لو كان باستطاعتي سؤال الرجل، لولا حالة الغضب التي انتابته وجعلته يصادر كلّ الآراء، ويقلِّل من قيمة أصحابها، بل ويناصبهم العداء هم أيضًا ويتهكّم بهم! أقول، إنّني وددت سؤاله، كيف غاب عنه أنّ صناعة رواية من نقاط تبئير محدّدة وقليلة، ومن شخوص معدودين، يعَدّ نجاحًا كبيرًا في عالم السرد إذا استوفيت باقي اشتراطات العمل السردي. ولعلّي أستبق إجابته بالقول، إنّ على الناقد الحقيقي السير على قدميه، أو اقتناء سيّارة فارهة يقودها بنفسه، إذ لن يكون له شأن يُذكَر طالما اختار لتنقّلاته النقديّة عربة القطار.