حامد أحمد الشريف
«يعودُ منتصف الليل ثملًا، يصرخ في وجه أمّي بصوته الخشن، ويحمّلها ذنب كلّ شيء.
سألتها مرّةً، عن تلك الدوائر الزرقاء حول عينيها.
التزمَتْ الصمت بوجهٍ بالغ الشحوب.
أستيقظُ أحيانًا وأجهش بالبكاء، يُخيَّل إليّ أنّه يضربني. لم أستطع كُره أبي، فالعواطف غلبت على الخوف.
ذات مرّة، وأنا في الطريق إلى البيت، عثرتُ على عصفور صغير أسقطته الريح من عشّه. لا شيء يدلّ على حياته، سوى خاصرته ونبضات قلبه. بلّلتُ فمه بالماء، ثمّ عمدتُ إلى قطعة من القماش، لففته بها، وضعته في زاوية مُعتمة من المطبخ، وطلبتُ من أمّي الاعتناء به. سمّيته «عجاج»، تيمُّنًا بأخي المتوفّى صغيرًا. حين حلّ الفجر، أسرعتُ إلى المطبخ، فتحت الباب بهدوء، فسمعتُ سقسقةً خفيفة؛ ما زال على قيد الحياة, التفتُّ، وإذا أبي ورائي، يقف في الباب.
حين دخل خيّم الصمت المطبق، ولم ينطق أحدنا بشيء. في خضمّ الرعب، تبوّلتُ على نفسي, أخذ عجاج بين يديه، وظلّ يرقبني بثبات.
اقترب ليمسح على رأسي، ناولني العصفور مبتسمًا...»
محمّد علي مدخلي
«لم أستطع كره أبي، لا لشيء سوى أنّه أبي». في ظنّي هذه العبارة لو كُتبت على هذا النحو لكانت أجمل وأفضل وأصوب، فالنصوص القصصيّة الإبداعيّة -كهذا النصّ - غير معنيّة بإيضاح معانيها بطريقة مباشرة، وتبرير سردها التخيّلي، طالما يمكنها إيصال المعنى بطريقة غير مباشرة؛ فلو قلت «لا لشيء سوى أنّه أبي» لفَهم القارئ أنّ العاطفة غلبت على السارد المتكلّم وأنسته ما كان من والده من ظلم وتعدٍّ، مع أنّ بعض النقّاد والقرّاء من محبّي الترميز في القصّة القصيرة، قد يرون التوقّف عند قولك «لم أستطع كره أبي»، وعدم الاستطراد بعدها، كافيًا جدًّا؛ فالأب عادة لا يُكره مهما كان تصرّفه ظالمًا، لا سيّما إن كان الابن طفلًا صغيرًا لم يشبَّ عن الطوق بعد، ولم يصل إلى سنّ الانعتاق عن الوالدين، وهي السنّ التي تلي مرحلة البلوغ وتُعرف بسنّ المراهقة التي تكون غالبًا ببن الخامسة عشرة والخامسة والعشرين تقريبًا (في أعلى درجاتها). ويمكننا استنتاج أنّ السارد كان طفلًا، بدلالة التبوّل اللّاإرادي، وهو عادة يرتبط بالأطفال ولا يتجاوز سنّ النضوج المعروفة إلّا في حالات مرضيّة نادرة جدًّا؛ كذلك ندرك أنّه يتحدّث عن مرحلة الطفولة من خلال حركة المسح على الرأس التي عادة ما نخصّصها للصغار، حسب العرف السائد، والنصّ أشار إلى ذلك صراحة؛ فيحقّ للقارئ اعتبار السارد المتكلّم طفلًا لم يصل إلى سنّ البلوغ بعد، وإن لم يُذكر سنّه تحديدًا، لكنّه - في ما يظهر لي - واعٍ متبصّرٌ بما يحيط به، ممّا يشير إلى أنّه - إن صدق حدسي - في العاشرة تقريبًا.
على أيّة حال، النصّ بدا جميلًا يستحقّ التوقّف عنده، والحديث عنه، وإن كان يحتاج إلى معاودة القراءة أكثر من مرّة لفهم مغزاه العميق، واكتشاف قيمته الحقيقيّة وسبر أغواره؛ وكان قد انطلق من عتبة العنوان الذي لا أظنّه وضعه بشكل اعتباطي، وإنّما له علاقة كبيرة بمحور الحكاية ونهايتها المدهشة، أو لنقل، مفارقة النهاية، وكذلك العقدة وحلّها؛ فالعنوان «عجاج»، وهو الاسم الذي اختاره الطفل الراوي المتكلّم، لعصفوره الصغير الذي كاد يموت لولا عثوره عليه في الوقت المناسب، تيمّنًا بأخيه المتوفّى، ووضعه في حماية والدته المسكينة، إذ لا يثق إلّا بها، أو لعلّه أراد ببراءة أن تصرف نحوه مشاعرها المكبوتة، وكان يظنّها لا تزال موجوعة لفقد ابنها «عجاج»، وقد أشار إلى حزنها وسقمها في حديثه عن هالة زرقاء تحيط بعينيها، وإن لم يذكر سببها بشكل واضح وصريح، وإنّما تركها تترجّح بين بكائها الدائم بسبب تصرّفات الأب المستبدّ التي – يقينًا – ستؤدّي إلى ذبولها وبلائها، وربما موتها، وبين فقد الابن الذي عادة ما يتسبّب في أكثر من ذلك للأمّ المكلومة؛ فلكلّ خيار من هذين الخيارين ما يبرّره في النصّ ويشير إليه صراحة.
تقصّد السارد عدم تحديد الأسباب، لتدسيم نصّه وجعله قادرًا على دفعنا باتّجاه سبر أغواره، والتعمّق فيه بحيث تتعدّد زوايا رؤيتنا له، وهو - من باب التوضيح - ما نسميه «العبارات حمّالة الأوجه»، وهي مقبولة في النصوص الإبداعيّة كحالة استثنائيّة، في حال أُحسن توظيفها وأوتي بها في مكانها الصحيح؛ إذ إنّ الجمل، والمفردات، والأساليب الكتابيّة، لا بدّ أن تكون قطعيّة الدلالة، بما يشير إليها من استشهادات في النصّ تحدّد مرادها والهدف منها، وإلّا سيسبّب وجودها ضعفًا للنصّ إن تُركت دون تحديد، وتحتمل كلّ المعاني، وهو ما نسمّيه بـ»النص المطلسم» الذي يصعب الجزم بمراميه، ويحتمل كلّ المعاني.
نعود للنصّ فنقول، إنّ الطفل عندما رأى والده في الوقت المشؤوم الذي حدّده السارد بعد آخر الليل، قرب حلول الفجر، والذي يشي بأنّه سيظهر فيه كلّ سوء الأب، وسبق أن تضرّرت منه والدته، وكذلك هو شخصيًّا، فتبوّل على نفسه هلعًا متصوّرًا أنّه فاتك به لا محالة، وبالعصفور أيضًا، إذ عادة ما يكون الأب مخمورَ العقل في هذا التوقيت من اليوم؛ إلّا أنّ ما حدث كان على العكس تمامًا، إذ أخذ ينظر إليه والعصفور بين يديه، قبل أن يقترب منه ويمسح على رأسه، ويناوله العصفور مبتسمًا, وهو ما شكّل مفارقة ودهشة النهاية غير المتوقَّعة، وإن لم تكن واضحة الدلالة قطعيّة القراءة؛ فلا شيء يؤكّد ما ذهبتُ إليه في قراءتي، وإنّما هو مجرّد توقُّع يشبه توقّعات المباريات، المبنيّة على معرفتنا بالفِرَق وقوّة لاعبيها، وتوقّعنا للخطط التي سيطبّقونها، بينما قد تأتي نتيجة المباراة على عكس كلّ توقعاتنا؛ وهو ما يتنافى مع القراءة الصحيحة للنصوص، حسب ما جاء به الناقد الفرنسي «رولان بارت» عندما أرشدنا إلى ضرورة استبعاد المؤلّف من تقييمنا للأعمال بشكل قطعيّ، طالبًا منّا افتراض موته، والنظر في النصوص بعيدًا عنه بالمطلق، وفهم مغازيها انطلاقًا منها وحدها، وعدم إحسان الظنّ فيها من خلال معرفتنا بمبدعيها وإيماننا بقدراتهم وقيمتهم الكتابيّة. لذلك، لا يمكن التعويل على فهمي - حتّى وإن كان صائبًا - طالما لم يشِر الكاتب إلى ذلك صراحة، وهو ما يعَدّ عيبًا في النصّ ينبغي تداركه ليكتمل جماله، مع أنّني أكاد أجزم بأنّ ما ذهبت إليه في فهم النهاية هو مقصد الكاتب، فالقصّة لا يمكن كتابتها بعيدًا عن هذا المعنى الذي أتت به نهايتها، وإلّا لأصبحت قصّة سطحيّة لا قيمة لها.
لذلك، لا بدّ من القول، إنّه كان من الواجب على الكاتب، لصنع مفارقة النهاية التي يحتاجها النصّ، الإشارة صراحةً إلى معرفة الوالد باسم العصفور «عجاج»، حتّى يمكننا الربط بين العنوان وردّة فعل الوالد، وبين موت الطفل «عجاج» الذي ربّما كان سببًا في الحالة التي أصبح عليها والده نتيجة فقده، وهو ما حاول النصّ الإشارة إليه بطرف خفيّ وبطريقة غير مباشرة، يمكننا فهمها ضمنًا عندما قال إنّ الوالد يلقي باللّوم على الوالدة في كلّ ما يصيبهم، وهذا يعني بكلّ تأكيد تحميلها وفاة الطفل الصغير، وربّما اتّجه لمعاقرة الخمر بسبب هذا الفقد الأليم؛ فلو أنّ النصّ أخبرنا بأنّ الأب يعلم اسم العصفور، لأمكننا الوصول إلى المعنى العميق الذي توقّعتُه، ويمكن ذلك على سبيل المثال من خلال مناداة الطفل للعصفور بـ»عجاج» بمحبّة، بعد سماعه صوته الذي طمأنه بأنّه لم يمت، ولم يكن يعلم في تلك اللحظة أنّ والده يقف خلفه، قبل أخذه منه واستكمال الحكاية بنهايتها المدهشة؛ فيكون سماع الأب للاسم ورؤيته للعصفور هو اللحظة المناسبة التي استعادت الوالد من غيبوبته، وذكّرته بطفله الصغير الواقف أمامه، والذي يتألّم هو الآخر من فقد أخيه، وكان يفترض الالتفات إليه؛ لكنّ الطفل لم يستطع التعبير عن هذه المشاعر الدفينة، بل لربما لم يفهمها جيّدًا، وعبّرت هي عن نفسها من خلال السلوك الذي انتهجه.
عادة ما يفعل الأطفال ذلك، فهم يعبّرون بسلوكيّاتهم العفويّة عن مشاعرهم المكبوتة، وهو ما فعله الطفل السارد عندما اختار بديلًا جيّدًا يبثّ من خلاله مشاعره، ويعرّف الجميع بالحزن الكبير الذي يعتمل في صدره ولا يحسن الإفصاح عنه. ذلك ما وصل إلى الأب، وإن متأخرًا، إذ فهم من تصرّف ابنه العفويّ أنّه كان عليه بذل المشاعر له شخصيًّا - أي للطفل الراوي - فهو موجود ويستحقّ ذلك، بدل البكاء المسكوب على الابن المفقود والذي لن يجدي نفعًا. وكأنّ الطفل يحاول أن يوصل إلى أبيه رسالة عميقة، مفادها أنّ الاحتفاء بالأشياء الجميلة التي بين أيدينا ومحبّتها، أفضل ألف مرّة من قتل أنفسنا والانتقام منها حزنًا على أشياء فقدناها ويستحيل استعادتها. والجميل أنّ هذه المعاني العظيمة لم يأتِ بها شخص مدرك بلغ من العمر عتيًّا، بل طفل لم يبلغ الحلم بعد، تُحرّكه فطرته السويّة، وتدفعه لقول ما لا يفهمه هو نفسه...
المؤسف في كلّ ما ذكرته، أنّ النصّ لم يحقّق هذا الربط الذي يبرّره؛ فأنا، كما أكرّر دائمًا في حواراتي ومقالاتي، لا أتّفق مع التأويلات التي لا ترتبط بشواهد حقيقيّة من النصوص، ترشد إليها وتؤكّد وجودها، مهما استطاعت حصافتنا وفراستنا أن تهدينا إليها؛ فالنصّ لا يؤوَّل حسب ذائقة القارئ، وقوّة أدواته القرائيّة، وقدرته العجيبة على ليّ عنق النصوص والذهاب بها إلى الاتجاهات التي يريدها، إن لم يكن النصّ يبرّر ذلك ويؤيّده، وهو القول الذي يُجمع عليه النقّاد الحقيقيّون. ذلك ما يجعلنا نقول، وبكلّ وضوح، إنّ النصّ الإبداعي يأخد بيد الناقد المتمكّن، ويعَدّ سرّ قوّته وجماله، ويرشده من خلال مفرداته، وأسلوبه الكتابي، ومعانيه الدلاليّة، وإشاراته السيميائيّة التي لا لبس فيها، إلى مكامن جماله وعمق معانيه. وقتها يمكن للقارئ أو الناقد أن يبحر في حديثه عن النصّ، ولا يمكن الإنكار عليه، وإن وصفت قراءته، بقصد التقليل من شأنها، بـ «نقد مع جب».
لذلك، أنصح المؤلّف أن يظهر هذا الربط الذي فهمته حتّى يكون نصّه مكتملًا، أو يشير إلى أنّني أبحرت بعيدًا عن مغزى النصّ إن لم يكن هذا مقصده، لأحاول قراءته مرّات أخرى، علّي أهتدي إلى مغزاه العميق، أو أعلن عجزي، دون التقليل بالطبع من هذا النصّ الجميل في كلّ أحواله؛ حسبه أنّه استطاع استمطار قلمي، وأسال لعاب نقده، ودفعني إلى قراءته والوقوف طويلًا أمامه، رغم إنكاري عليه بعض النواقص التي أظنّه «كان يحتاجها».