حامد أحمد الشريف
«كان عمر حفيدتي كاتلينا عشر سنوات، وكنّا نتمشّى في أحد شوارع بوينيس آيريس حين اقترب أحدهم وطلب منّي توقيع أحد كتبي، لا أذكر أيّ كتاب منها.. وواصلنا المشي، كلانا صامت، ومتعانقين، إلى أن حرّكت كاتلينا رأسها وصاغت هذا التعليق المشجِّع: لا أعرف لِمَ كلّ هذا الاهتمام بك، إذا كنت أنا لا أقرأ لك.
«إدواردو غاليانو».
يقال عن هذا النصّ، إنّه من العبارات المتداولة الملتصقة بالكاتب والروائي الأوروغوائي «إدواردو غاليانو»، يروي من خلاله تجربة شخصيّة عاشها مع حفيدته «كاتلينا»، دوّنها أو ذكرها لمن حوله كنوع من المفارقات المضحكة التي تحدث عادة مع الجميع ويُحيون بها مجالسهم ومسامراتهم مع أصدقائهم. ولأنّه «غاليانو»، تمّ تناقل هذه العبارة وذيوعها حتّى جرت مجرى الحِكَم، وهي تستحقّ ذلك بالفعل، فعمقها ثريّ جدًّا ويدعونا للتوقُّف مطوّلا والتفكُّر في مغازيها. ولكنّني سأبتعد عن ذلك كلّه، وسأتناولها من زاوية أخرى، فهي في ظنّي قصّة قصيرة جدًّا مكتملة الأركان، رغم أنّها - في ما يبدو - وقعت بالفعل ولم تكن متخيَّلة.
ولعلّه من المهمّ التوقُّف هنا وإيضاح خطأ المعتقَد الذي يؤمن به بعضهم، فنقول، إنّ واقعيّة الحكاية لا تخرجها من أدب القصّة بكلّ تفريعاته، حتّى وإن ذُكرت بأسماء أبطالها الحقيقيّين؛ فأركان القصّة الأساسيّة، بالمنظار الحديث، لا علاقة لها بكونها واقعيّة أو تخيُّلِيَّة، وإنّما كان يُنظر إلى القصّة على أنّها خيال محض بغية الابتعاد عن شخصنة أبطالها، أو إقحام كاتبها في مدلولاتها وأفكارها وفلسفاتها، ومنحِها المساحة الكاملة لتُبلِغ رسالتها بدون حرج وبدون مصادمة، ولاسيّما إذا لم يعلن كاتبها ذلك صراحة ويدرجها ضمن «أدب السِّيَر»؛ فإنّ واقعيّة الحكايات المسرودة لن تُفقدها قيمتها القصصيّة في حال كُتبت بشكل صحيح، والتزمت بكلّ المعايير القصصيّة القياسيّة، واختار المؤلِّف إدراجها ضمن أدب السرد القصصي المتخيَّل؛ وهو ما وجدته في كثير من الكتابات العربيّة الرائعة التي لم تُفقدها واقعيّتُها والتصاقُها بالكاتب قيمتَها كقصّة قصيرة، كما حدث مع إحسان عبدالقدوس في كتابه «سيّدة في خدمتك» الذي أعتبره من أجمل ما قرأت في جنس القصّة القصيرة الحديثة، رغم إمكانيّة اعتباره من كتب السِّيَر الذاتيّة أو من أدب الرحلات. لكنّه، ونظرًا لالتزامه بكلّ اشتراطات القصّة القصيرة الإبداعيّة، فإنّنا مجبرون على النظر إليه من خلال النافذة القصصيّة؛ وهو ما قام به المؤلّف أيضًا، ودار النشر، عندما ألحقاه بأدب القصّة. وللحقّ، فإنّ مخطوطته تلك تعَدّ من المجموعات القصصيّة القيِّمة التي تستحقّ الوقوف عندها، والتأمُّل فيها، إذا ما تحدّثنا عن قدرة الكاتب وحِرَفيّته العالية التي مكّنته من الجمع بين الواقع والخيال، والسيرة والقصّة، بحيث مزجها جميعًا مع بعضها مذيبًا كلّ الحدود الفاصلة بينها؛ إضافة إلى جمعه الصدق السيَري بالكذب الإبداعي الذي عادة ما يرافق السرد التخيُّلي ويعَدّ من أسراره الإبداعيّة. ولقد ماثله في هذا الإبداع الكاتب إبراهيم أصلان في رائعته «خلوة الغلبان» وفي كتابه الآخر «شيء من هذا القبيل».
وبالعودة إلى «غاليانو» وحكايته المدهشة، نجد أنّه اتّخذ هذا المسار في وصف واقعة حقيقيّة مرّ بها، دون استطاعته التخلُّص من قيمته ككاتب سرد محترف يصنع الحكاية الواقعيّة المسرودة بطريقته، فيزن الكلمات ويضعها في موضعها الصحيح، ويسهل عليه بناء الحكاية بالتنامي الإبداعيّ المطلوب، وبالأفعال الحركيّة المناسبة، وخلق صراعاتها، وإثارتها وتشويقها، ووضع الشواهد التي تشير إلى مقاصدها الخفيّة وأسلوبيّتها، والأخذ بأيدي القرّاء للوصول إلى نهايتها المدهشة ومفارقتها العظيمة التي أبقت أثرها في نفس القارئ وألصقتها به. ولم يُغفل، رغم إيجازه الشديد، الاستهلال الإبداعيّ الذي قادنا إلى النهاية، وقبل كلّ ذلك ضمّخها بمعانٍ عظيمة في عمقها، تدعو للتفكير، والتأويل، والاكتشاف، وتعدُّد الآراء حولها؛ واستحضر الزمان والمكان، وإن على استحياء يتناسب مع حجم الحدث المسرود. فعل كلَّ ذلك من دون الخروج عن نطاق الواقعة الحقيقيّة التي عاشها.
وطالما أنّ هذه الحادثة المرويّة البسيطة استطاعت استحضار كلّ هذه العناصر السرديّة الغنيّة التي ينبغي توافرها في القصّة الإبداعيّة، وتميّزت بمشهديّتها وحوارها وبذخها الكتابي الذي لا يمكننا إنكاره - رغم إيجازه - فلا شكّ ولا ريب أنّها تستحقّ النظر إليها على أنّها إحدى القصص القصيرة جدًّا الإبداعيّة، حتّى لو لم يعتبرها كاتبها وناقلها كذلك؛ فالكاتب غير معنيّ بمداد قلمه طالما سطره على الورق ووصل إلى القرّاء والنقّاد الذين يقرِّرون بأنفسهم كيفيّة التعامل مع النصّ.
ومن هذا الباب، فإنّني سأتعامل مع هذه الواقعة المدوَّنة على أنّها قصّة قصيرة جدًّا، غاية في الروعة والإبداع، فيها تصوير جميل للواقع الذي يعيشه أغلب المبدعين على مرّ العصور. فالبشر على العموم جُبلوا على الارتهان إلى الصور النمطيّة المعتادة المحفوظة في عقلهم الباطن، بالأخصّ في علاقاتهم الإنسانيّة والاجتماعيّة. وفي ما يتعلّق بالأشخاص القريبين منهم، نجدهم لا يبتعدون عنها - غالبًا - مهما علا شأن أصحابها، ومهما بلغوا من المجد والمنزلة العظيمة. وهو ما يبيِّن سبب رفضهم لإبداعات أقاربهم وأصدقائهم، وعدم الاعتراف بهم كمبدعين، أو عدم إعارتهم أيَّ اهتمام؛ وهو ما يحدث غالبًا، على الأقلّ في مجالسهم الخاصّة. ويستثنى من ذلك - بالطبع - الاحتفاء الخادع الذي يحدث أحيانًا إن طغت العواطف، واستُبعد العقل، وفُقدت المعرفة والخبرات المعينة على التقييم الصحيح. وفي كلتا الحالتين نجد أنّنا ننقاد إلى نتائج غير جيّدة وتفتقر للمصداقيّة.
وبعيدًا عن تفصيلات هذه الحكاية التي تتغيّر بالطبع نتائجها عند ارتهانها للنفاق الاجتماعيّ والمصالح المشتركة التي قد تُظهر شيئًا من الاحتفاء الكاذب بالمبدع - في حال ذاع صيته - نلاحظ أنّ القاسم المشترك هو تلك النظرة غير المنصفة للمبدعين ممّن عاصروهم قبل ظهور نبوغهم وإبداعاتهم، وعزوفهم عن مطالعة نتاجهم الإبداعيّ مهما كانت قيمته، حتّى وإن تظاهروا بغير ذلك أو استثمروا الموقف لصالحهم، وهو ما يفسر الحديث الصادق عن المبدعين، وذكر مناقبهم، ولكن، بعد رحيلهم.
السؤال المهمّ الذي ينبغي الوقوف عنده، إن كان ما نقوله هنا صحيحًا - وهو بالفعل كذلك - هو: أين هي قيمة هذه القصّة طالما لم تحمل الأصالة التي تُظهر تفرُّدَها وجمالها، والتي تعَدّ ركنًا مهمًّا من أركان القصّة الإبداعيّة؟ فالتقليد والتكرار، كما هو معلوم، يُفقدان الحكاية قيمتها، ويدخلانها في إطار النظم السيِّئ.
وقبل الخوض في الإجابة عن هذا الاستفهام المهمّ، دعونا نتّفق أوّلًا على أنّ قيمة هذه القصّة لا علاقة لها بكاتبها كاسم، وإنّما ارتبطت بحمولتها النصّيّة التي أظنّها أخذتنا بعيدًا عن هذه المعاني المتداولة، وأظهرت لنا شيئًا من الأصالة التي نبحث عنها؛ فالموقف المسرود هنا - كما يظهر لي - مختلف جدًّا، نستشفّ منه الإجابة عن السؤال السابق. فهذه الطفلة ليس في ذهنها سوى المشهد الذي تراه أمامها الآن؛ لقد أتت إلى الدنيا ووجدتها على هذه الحال التي تراها عليها يوميًّا، ولا يزال عقلها الباطن فارغًا، أو لنقل، لم يدخل بعد حيِّز التأثير، حتّى وإن بدأ بالفعل في التخزين السلبيّ؛ فالأطفال يتأثّرون بالمواقف الآنيّة في وقتها، ولا يذهبون بعيدًا في تفسيراتهم لها وتأويلاتهم، وتكون ردود أفعالهم عفويّة لا تخضع لأيّ عوامل سابقة، وهو ما وصفه المؤلِّف بـ «صاغت هذا التعليق المشجِّع»، في إشارة ذكيّة إلى أنّها لم تكن تعني ما قد يتبادر إلى الذهن من معانٍ سيّئة؛ وكأنّه يريد ترسيخ قيمتها كطفلة لا تعني بالضرورة ما يحتمله كلامها، وأنّها بالفعل هي المحور الأساس للحكاية.
ذلك ما يقودنا إلى السؤال المهمّ الآخر، لِمَ رفضت «كاتلينا» هذه الصورة الجميلة التي تدعو للفخر طالما لم يكن العقل الباطن حاضرًا بتأثيراته السيّئة في هذه الحالة؟!
ولِمَ تعجّبت من اهتمام الناس بإبداعات جدّها التي يُفترض أن تزهو بها، في ظلّ أنّها طفلة، والأطفال عادة يحبّون مثل هذه الأمور التي تُعلي من شأنهم وشأن أقربائهم الملتصقين بهم؟!
باعتقادي، إنّ عقدة الحكاية تكمن في هذه الجزئيّة المهمّة، إذ إنّ «كاتلينا» كانت ترى شهرة جدّها وتهافُت المعجبين عليه، ومع ذلك أنكرت عليهم فعلهم بعفويّة شديدة، وهي تذكر أنّها رغم محبّتها له وقربها منه، لم تقرأ له مطلقًا؛ ولم تكتفِ بذلك، بل أظهرت استغرابها أيضًا من قراءة الآخرين له، وكأنّها تقلِّل من قيمة كتاباته، بينما لم تكن - يقينًا - تريد إيصال هذا المعنى السيِّئ، لكونها لم تقرأ له (باعترافها) وهي تحبّه أيضًا، والموقف يشير إلى ذلك صراحةً، في قوله: «متعانقَين». فالمعانقة لا تكون إلّا بين المتحابّين، هذا إذا ما تغاضينا عن العلاقة الحميميّة التي تربطهما كجدٍّ وحفيدته، ولا تحتمل غالبًا غير المحبّة. كلّ ذلك يمنعها من الإساءة، ويبرِّئ ساحتها، ويذهب بنا إلى حيث حمولة النصّ الغنيّة التي أراد الكاتب وصولَنا إليها، وأظنّها تتلخّص في المشاعر الصادقة لهذه الطفلة التي كانت ترى في كتب جدّها شيئًا عاديًّا جدًّا، لا يستحقّ الاهتمام به إذا ما قورن بالقيمة الكبيرة التي يشكّلها جدها نفسه.
بمعنى أدقّ، يشير هذا النصّ في عمقه المثري، إلى أنّ البشر - على العموم - يختزلون المبدع في إبداعاته المادّيّة، ويعظِّمونه من أجلها، وقد يستنقصونه بدونها؛ بينما الأطفال لا يلتفتون للإبداعات بقدر التفاتهم للأشخاص أنفسهم، فيقيسون قيمتهم انطلاقًا من قربهم أو بعدهم عنهم، وما يربطهم بهم من مشاعر صادقة، وتبعًا لذلك يُسقطون على المبدعين المقرَّبين منهم من كتّاب وما شابه، كتلة ضخمة من المشاعر تطغى على قيمتهم الإبداعيّة. لذلك، تعجّبت الطفلة، في هذا الموقف المسرود، من الاهتمام الذي يجده جدُّها من أناس لا يربطه بهم غير تلك الكتب التي لم تكن تعترف بقيمتها؛ فقيمة جدّها أكبر بكثير من الأوراق البالية التي يوقِّع عليها، لذلك لم تكن تلتفت إليها، ولن تلتفت إليها، طالما لا تزال تتحرّك وفق فطرتها السويّة، أي قبل احتكامها للعقل والمشاعر المزيّفة عندما تكبر وتبتعد عن مرحلة الطفولة الجميلة... أو لعلّها كانت في هذه المرحلة العمريّة المبكِّرة ترى في كتبه فتاتًا يتصدّق به على المعوزين من القرّاء، بينما لم تكن هي بحاجة إلى هذا الفتات لكونها تمتلك رأس المال الضخم جدًّا، وأعني بذلك، جدَّها نفسه، الذي أشغلها عن الاهتمام بأيّ شيء غيره.
باعتقادي، إنّ قيمة هذا النصّ الرائع تكمن في عفويّة الطفلة، وعبارتها الجزلة التي أخرجت لنا من واقعةٍ بسيطة قد لا تستحقّ روايتها، قصّةً أصيلة ينبغي قراءتها بطريقة مختلفة، اعتمادًا على قيمة حضور الطفلة في مشهديّتها وحوارها، وقيادتها باحترافيّة عالية للصراع الذي أوصلنا إلى دهشة النهاية، واستدام حضورنا بجوار النصّ، وهو ما يجعلنا نفكِّر ونتساءل، ونحن نستحضر صناعة القصّة الإبداعيّة، عن قيمة هذا الموقف لو لم يحدث مع كاتب بقيمة «إدواردو غاليانو»، وقيمة هذه القصّة «لو لم تكن طفلة» هي مَن حرّك بوصلتها!