حامد أحمد الشريف
لا أعلم صحّة هذه العبارة المتداولة نقلًا عن الفيلسوف اليوناني أرسطو (وثمّة من نسبَها إلى سقراط)، إذ يروى عنه أنّه سُئل: “كيف تحكم على إنسان؟ فقال: إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإنّي أسأله كم كتابًا قرأت وماذا قرأت؟” لكنّني في كلّ الأحوال أتحفّظ على هذه المقولة - أكانت لأرسطو أو لسقراط - وأختلف جذريًّا مع الفكرة التي تسوّق لها؛ فعدد الكتب ونوعيّتها ليسا مقياسًا لمعرفة قيمة إنسان حتّى وإن قرأها أو حفظها عن ظهر قلب. ولعلّي أستحضر هنا مقولة عظيمة لشيخ القرّاء وصفوة الكتّاب عبّاس محمود العقّاد، تصادمَ من خلالها مع فلسفة أرسطو هذه، فقد رُوي عنه أنّه كان يقول: “اِقرأ كتابًا جيّدًا ثلاث مرّات أنفع لك من قراءة ثلاثة كتب جيّدة”، وكذلك قوله متهكّمًا - كعادته - ببعض الآراء التي يختلف معها: “يقول لك المرشدون: اِقرأ ما ينفعك، ولكنّي أقول: بل انتفع بما تقرأ”.
والشاهد هنا أنّ القراءة لم تكن يومًا هدفًا بذاتها، وإنّما نتيجة نفوز بها من خلال قراءاتنا المتعدّدة الواعية، بالمنهجيّة القرائيّة الصحيحة، وتظهر على هيئة سلوك يشير إلى نوعيّة قراءاتنا وقيمتها، بالضبط كما قال “فولتير” عندما سُئل عمّن سيقود الجنس البشري، فأجاب بأنّهم الذين يعرفون كيف يقرأون؛ ونلاحظ هنا أنّه لم يقل “من يقرأون”، وإنّما قرنها بالكيفيّة، وبالطبع هناك فرق كبير بينهما. وهو ما قاله أيضًا “بنيامين إيزاك دزرائيلي” السياسي والكاتب البريطاني المعروف وأحد المؤسّسين لحزب المحافظين، في قوله بطريقة أخرى: “إنّ هناك فنًّا للقراءة كما أنّ هناك فنًّا للتفكير وفنًّا للكتابة”.
أقول ذلك وقد عجبت لقوم أصبحوا يتباهون بقراءاتهم المتعدّدة، مستغلّين بعض المناسبات العامّة (كنهاية العام) للتصريح بها، فيُظهرون صور كتب أنجزوا قراءتها خلال فترة زمنيّة محدّدة. بالطبع لا يمكننا إنكار فرحتنا بشيوع ثقافة القراءة وذيوعها بيننا، بل وتمنّي حدوثها بالفعل، ولعلّ في ذلك ما يشير إليها، فالأمّة - أيُّ أمّة - إنّما ترتقي بكثرة مطالعات شعوبها وانفتاحهم على كلّ الثقافات والعلوم بشتّى أنواعها؛ فليس مثل القراءة والكتب بابًا نعبُر منه لنرى كلّ العالم من حولنا، بل ونعود من خلاله إلى الأزمنة الماضية، ونعيش جماليّات وإنجازات الحاضر، وقد نستشرف المستقبل، ونستقي من كلّ ذلك العِبَر، ونحوز العلوم والخبرات؛ ويكفي أنّنا مأمورون بذلك في النصّ القرآني حيث قال تعالى: ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ? وقال أيضًا: ? وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا? وكلّ ذلك خير عظيم. ولعلّنا إن عرفنا أنّنا مأمورون أيضًا بذكر أنعم الله علينا إذ قال تعالى: ?وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ?، نجنح لقبول هذا الأمر في أصله، إذ ليس من نعمة قدر نعمة القراءة كي نخبر بها ونحدّث الناس عنها. ولكن، أيكون ذكر النِعَم واستجلابها بهذه الطريقة؟! وهل هي نعمة بالفعل على إطلاقها؟! وهل يجوز التفاضل في ما بيننا بعدد الكتب التي نقرأها وعناوينها من دون النظر إلى أيّ عوامل أخرى؟!
أظنّ أنّه من المناسب، قبل الخوض في هذه الاستفهامات والإجابة عنها، الرجوع أوّلًا إلى زمن مضى كان فيه الكتاب هو الوسيلة الوحيدة تقريبًا الناجعة للتسلية وطلب العلم على حدٍّ سواء، وكان هو المحور الأساس في كلّ حلقات التعلُّم، ولم يكن يمنع الناس عن القراءة والنهل من منهلها العذب إلّا افتقارهم لأدواتها، وأمّيّة بعضهم التي كانت تسلبهم هذه النعمة وتورث أفئدتهم الحسرات، فيُقِيمُونَ أصلابهم بقليل منها بالحضور إلى المجالس التي تُضاء فيها قناديل المعرفة. كان ذلك - بالطبع - قبل ذيوع الوسائل التقنيّة، بدءًا بالمذياع والرائي وصولًا إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة التي جعلت المعلومة الخبريّة متاحة تقريبًا للجميع، الجاهل والمتعلّم، والغنيّ والفقير، والصغير والكبير، وسادة القوم وأرذلهم... وأصبح معها الكلّ يتشدّق بالمعرفة، ويجادل حولها، ويتصدّر للحديث عنها، حتّى وإن كان لا يعلم شيئًا من مغزاها ومدلولاتها العميقة.
وعلى أيّة حال، تبقى المعرفة على مرّ العصور هاجسًا يلتقي عنده الجميع، كلٌّ يحاول الاستزادة منها بطريقته والأخذ منها بطرف. وكان للقرّاء قَدْرهم ومكانتهم التي لا توازيها أيّ مكانة أخرى، ولا يجاريهم في ذلك حتّى الكتّاب الكبار رغم ندرتهم وتخصّصهم وقيمتهم العلميّة، حيث إنّ مجالس العلم غالبًا ما تنطلق من أقلامهم وفكرهم وفلسفتهم. هذه القيمة حازها القرّاء بفضل تنوّع مصادرهم المعرفيّة وانفتاحهم على كلّ الثقافات، إلّا أنّ ذلك كلّه لا يبرّر ظهورهم جوار مقتنياتهم من الكتب الذي بات شائعًا على وسائل التواصل، وتباهيهم بانتهائهم من قراءتها، لبيان ما هم عليه من علم وثقافة وأدب، في إشارتهم إلى القراءة كرافد أساسيّ كان له الفضل في ما هم عليه، شأن كلّ كاتب ومفكّر وفيلسوف.
ولعلّ في قصّة الأديب الأريب إبراهيم عبدالقادر المازني، المتوفّى سنة (1949م) التي سردها في كتابه الجميل “سبيل الحياة”، وكان يتندّر فيها عن حاله مع القراءة وما وصل إليه من شغف تجاوز كلّ حد، قال - رحمه الله-: “تزوجتُ، وفي صباح ليلة الجلوة دخلتُ مكتبتي وردَدْت الباب، وأدَرتُ عيني في رفوف الكتب، فراقَني منها ديوانُ (شيللي) فتناولتُه، وانحطَطْتُ على كرسيٍّ وشرَعتُ أقرأ، ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلّا سوادُ ليلة واحدة، وكانوا يبحثون عنّي في البيت حيث يظنّون أنْ يَجدوني؛ في الحمّام، وفي غرفة الاستقبال وفي (المنظرة)، حتّى تحت السرير بحَثوا! ولم يخطر لهم قطّ أنّي في المكتبة؛ لأنّي (عريس) جديد، لا يُعقَل في رأيهم أن يَهجُر عروسه هذا الهجر القبيح الفاضح! وكانت أمّي في (الكرار) أو المخزن، تعِدُّ ما لا أدري لهذا الصباح السعيد، فأنبَأوها أنّي اختفيتُ كأنّما انشقَّت الأرض فابتلعتني، وأنّهم بحثوا ونقبوا في كلّ مكان، فلم يعثروا لي على أثر، فما العمل؟! فضحكَت أمّي وقالت: ليس في كلّ مكان! اذهبوا إلى المكتبة؛ فإنّه لا شكّ فيها. فقالت حماتي - ضاربةً على صدرها بكفها -: في المكتبة؟! يا نهار أسود! هل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟! فقالت أمّي بجزع: اسمعي.. كلّ ساعة من ساعات الليل والنهار وقتُ كتب، افهمي هذا وأريحي نفسك؛ فإنّ كلّ محاولة لصرفه عن الكتب عبث! فقالت حماتي: “لو كنتُ أعرف هذا!! مسكينة يا بنتي.. وقَعتِ وكان ما كان!” بالطبع ما كان المازني ليروي لنا هذه القصّة لولا أنّه عُرف بثقافته وأدبه وعلمه، فأراد الإشارة إلى المنهج الذي اتّبعه وأوصله إلى ما كان عليه، وهو ما نوّهنا عنه سابقًا، فالأثر قبل الطريقة والمنهج، وقد لا نحتاج الصور بعدها.
وممّا يُروى عن الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - إجابته مازحًا عندما سئل عن قراءته (وكان رجلًا باشًّا لا يظهر إلّا مبتسمًا) بأنّه منذ ستّين عامًا اعتاد قراءة ما متوسّطه مئة صفحة في كلّ يوم، وعليهم العدّ... وكان استفهامهم التعجّبي إشباعًا لفضول من يرى أنعم الله على الشيخ ويغبطه عليها، إذ كان مكتبة متنقّلة تتنوّع مخرجاتها بين الأدب والعلم الشرعيّ والشعر وكافّة العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة والجغرافيا والتاريخ... والشاهد هنا أنّهم لم يتحصّلوا منه على اسم كتاب واحد ينصح بقراءته، وإنّما أرشدهم إلى شغف القراءة، ففيها تحقيق مرادهم باقتفاء أثره إن أرادوا. وكان ذلك - بالطبع - هو حال من سبقوه في هذا المضمار، كالجاحظ الذي قال عنه عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي العبدي البصري المعروف بأبي هِفّان الشاعر: “لم أرَ قطّ ولا سمعت مَن أحبّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنّه لم يقع بيده كتاب قطّ إلّا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتّى أنّه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر” (انتهى كلامه)، والمقصود هنا أنّ ما يتمّ تناقله والحديث عنه، هو شغف القراءة لمن اشتهروا بالأدب والثقافة والعلم الغزير، ولم يكن مهمًّا ذكر أسماء الكتب وعددها إلّا كمراجع لا غنى عنها للمتعلّم، كـ”الآجروميّة” لابن آجُرُّوم، محمد بن داود الصنهاجي، أبو عبد الله، و”زاد المعاد” لابن الجوزي بأجزائه التسعة، و”البخلاء” و”البيان والتبيين” للجاحظ، وغيرها من الكتب التراثيّة الذائعة الصيت كـ”ألفية ابن مالك” التي حفظها معظم العلماء وفقهاء اللغة عن ظهر قلب، ومن هؤلاء بالتأكيد الشيخ محمد بن صالح العثيمين الذي ظلّ طوال حياته يدرِّسها لطلّابه ويرغِّبهم في حفظها، والشيخ علي الطنطاوي أيضًا، إذ كان من حافظيها وإن شهد على نفسه بحسرته على تفلُّتها منه، رغم حضورها على لسانه في استقامة قوله، وجزالة تعبيره، وفصاحته وبيانه وبلاغته، واستحكام استشهاداته التي تأتي غالبًا في مواضعها من دون استحضارها؛ وفي ذلك ما يشير إلى ما نحن بصدده من أنّ القراءة تعدُّ وجبات دسمة تقوِّم فكرنا وتغذّيه، حتّى وإن ضاعت عناوينها وهيكلّياتها ومعالمها الأساسيّة، فهي كالطعام عندما يتحوّل داخل أجسادنا إلى مادّة حيّة، وتختفي كلّ مواصفاته السابقة فلا نشعر بها إلّا كطاقة تمدّنا بالقوّة وتعيننا على أعباء الحياة؛ والقراءة تمرّ بهذه الدورة من التحوّلات فلا يبقى منها بعدفترة إلّا ما يظهر في حديثنا، والمعرفة التي تجري على ألسنتنا، والحكمة التي نرشد إليها إن كانت حقيقيّة ولم تكن مظهريّة.
ولعلّ ممّا يعيننا على فهم القراءة وبيان أثرها، الاستشهاد بقولٍ مأثورٍ للشيخ العلّامة محمود محمد شاكر أبو فهر الذي قال في كتابه “الطريق إلى ثقافتنا”: “قرأتُ الشعر العربي كلّه أولًا، ثمَّ قرأتُ ما يقع تحت يدي من هذا الإرث العظيم والضخم المتنوِّع؛ من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول فقه، وأصول دين (هو علم الكلام)، ومِلَل ونِحَل، إلى بحر زاخِرٍ من النقد، والآداب، والبلاغة، والنحو واللغة، حتّى درستُ الفلسفة القديمة، والحسابَ القديم، والجغرافيا القديمة، وكُتُبَ النجوم، وصُوَر الكواكب، والطبَّ القديم، ومُفرَدات الأدوية، حتّى قرأتُ البيزرة والبيطرة والفراسة... بل كلّ ما استطعتُ أن أقف عليه بحمد الله سبحانه، قرأتُ ما تيسَّر لي منه، لا للتمكُّن من هذه العلوم المختلفة، بل لكي ألاحظ وأتبيَّن وأُزيحَ الثَّرى عن الخبيءِ والمدفونِ!”(انتهى كلامه) كما يُلاحَظ، إنّ القراءة كانت بهدف التعلُّم والتثقُّف ولم تكن من أجل الصور. ولعلّي أضيف هنا أنّ من أراد الكتابة في أيّ جنس من الأجناس، عليه فعل ما فعله شيخنا، فالكاتب لا بدّ أن يكون له من كلّ علم شذرة لا يستقيم قلمه بدونها، وأبطال السرد أَوْلى بذلك من غيرهم.
وحتّى نكون منصفين أكثر، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاهتمام بالكتب واقتناءَها وتبويبَها والمحافظة عليها كان يمثّل شغفًا أيضًا، ونقل لنا التاريخ عددًا من الحكايات التي تؤسِّس لهذا الشغف وتحكي عنه، من ذلك ما قيل عن الخليفة المستنصر في الأندلس الذي لم يمنعه الحكم ومسؤوليّاته وأعباؤه الكبيرة من الانصراف إلى العلم، ومحبّة العلماء، والاهتمام بالكتب قراءة وحفظًا وسلوكًا وتنزيلًا، فكان يعَدُّ من فقهاء وعلماء عصره، وأصبح من خلال عشقه ذلك حالةً فريدةً وخبرًا يُروى، عندما جمع ما لا يُجمع، وأنشأ أعظم مكتبة إسلاميّة في العصور الوسطى، تضمّنت ما يقرب من نصف مليون مجلد قرأها جميعها. وقيل إنّه كان يجتهد لشراء الكتب الجديدة، بل ويحرص أيّما حرص على اقتناء النسخة الأولى من كلّ كتاب ليحظى بشرف قراءته الأولى. ويقال - إن صحّ الخبر - أنّه أرسل ألف دينار لأبي الفرج الأصفهاني كي يرسل له النسخة الأولى من كتابه “الأغاني”، ففعل. والشاهد هنا أنّ هذا الخليفة إنّما كان يتخفّف من مهامّه الجسام ليرضي شغفه بالقراءة، ولم يهتمّ برواية ذلك عنه أو التباهي به، وتكفّل المشدوهون ممّا يفعل بنقل هذا الخبر وإيصاله إلينا.
وللكتاب قصص أخرى مع السلف الصالح من كبار القرّاء، كحكاية ابن الجوزي التي أوردها في ص 706 من كتابه الثمين “صيد الخاطر” في قوله: “وإنّي أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعةِ الكُتُبِ، وإذا رأيتُ كتابًا لم أرَه؛ فكأنّي وقعت على كنزٍ. ولقد نظرتُ في ثَبْت الكتب الموقوفة في “المدرسة النّظاميَّة”، فإذا به يحتوي نحو (ستّة آلاف) مجلّد. وفي ثَبْت كتب أبي حنيفةَ، وكتب الحُمَيْدِي، وكتب شيخنا عبدالوهاب، وابن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كلِّ كتابٍ أقْدِرُ عليه. ولو قلتُ: إنِّي طالعت (عشرينَ ألفَ) مجلّد كانَ أكثر، وأنا بعد في الطلب. فاستفدتُ بالنَّظرِ فيها من ملاحظةِ سِيَرِ القومِ، وقَدْرِ هممِهم، وحفظِهم، وعبادَتِهم، وغرائبِ علومهِم، ما لا يعرفه مَن لم يطالع، فصرتُ أستزري ما النَّاس فيه، وأحتقرُ هِمَم الطلّابِ. والحمد لله” (انتهى كلامه).
نذكر هنا أنّنا ما زلنا نقف على حالاتٍ من النبوغ المعرفيّ التي يُعزى سببها إلى القراءة إجمالًا، دون ربطها بمحتوى معيّن أو عدد محدَّد، وهو ما نُقل عن شافع بن علي العسقلاني وكان كفيفًا أُغرم بجمع الكتب، حتّى قيل عنه أنّه من شدّة حبه لها يعرف كتبه من ملامستها، فيقول “هذا الكتاب قد ملكته في الوقت الفلاني”، وكان لديه المقدرة على تناول كتبه من خزانته دون مساعدة من أحد، كما ورد في “الدرر الكامنة” لابن حجر، المجلد الثاني، ص 184. وكان ممّا يُروى عن ابن شهاب الزهري أيضًا، أنّه قد جمع من الكتب شيئًا عظيمًا، وظلّ يلازمها ملازمةً شديدة، حتّى أنّه يُروى عن زوجته قولها: “والله إنّ هذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرائر”!
خلاصة القول، إنّ هذه الظاهرة التي نحن بصدد الحديث عنها، لم يكن لها أيّ وجود في السلف الثقافيّ الصالح، وقت كانت القراءة شغفًا حقيقيًّا، بحيث لا يسقط الكتاب من أيدي بعضهم، وقد يتقاسم معهم الزاد والماء والهواء، لا لشيء إلّا لأنّهم كانوا يمتطون صهوة الكتب ويسوسونها بالقراءة الصحيحة استجلابًا للمعرفة التي كانت هاجسهم الحقيقيّ، هذه القراءة التي وصفتها “الموسوعة العربيّة العالميّة” بأنّها: “عمليّة استخراج المعنى من الكلمات المطبوعة أو المكتوبة وهي أساسيّة في التعلُّم، وإحدى المهارات المهمّة في الحياة اليوميّة... إلخ”، وهو ما برع فيه الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - وكان معجزة عصره في سرعة استحضار المخزون المعرفيّ الذي تحصّل عليه من قراءاته الواعية والمتعدّدة، وشروعه في التفسير خلال ثوانٍ معدودة اعتمادًا على درايته بالعلوم من نحو وصرف وبلاغة، وثقافات متعدّدة، وإسرائيليات متواترة، وتفاسير منقولة عن السلف الصالح والصحابة، وما كانوا ينقلونه عن نبيّ الهدى محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلّم - وهي الأسس التي أجمع عليها العلماء وجعلوها شرطًا للتفسير، ممّا يجعل قول الشيخ منقولًا أيضًا وتنتفي عنه صفة العقلانيّة التي اتُّهم بها، أعانه على ذلك - بالطبع - قدرته العجيبة على الاستنباط المحكَم، والتحليل المتقَن، والوصول إلى المعاني المخبّأة التي قد يعجز عنها من لا يُتقنون القراءة الحقيقيّة.
وبالعودة للكتاب، يمكننا استظهار قيمته الحقيقيّة من قول المتنبّي في وصفه له وتعظيم شأنه في البيت الشعري الشهير:
“أعزُّ مكان في الدنى سرج سابح
وخيرُ جليس في الزمانِ كتابُ”
وكما يظهر من العمق الدلاليّ للبيت، إنّ المهمّ في الكتاب هو المجالسة والمؤانسة والحديث المشترك والحوار والتثاقف، وهي المعاني التي أتى بها المتنبّي من خلال أنسنة الكتاب باستخدام مفردة “جليس”، ممّا يشير بكلّ وضوح إلى أنّ القراءة الحقيقيّة، في ظنّ شاعرنا الملهم، تتضمّن كلّ هذه المعاني. ووفق هذه المعادلة البسيطة نستطيع إدراك أنّ الكتاب لم يكن أبدًا مستهدَفًا بذاته، وإنّما بما يحويه من أدب وشعر وثقافة وعلوم شتّى، ينتقل جلُّها إلى القارئ عن طريق المصافحة، فإن لم يظهر أثر ذلك على القارئ بحيث يدفعنا للمبادرة بسؤاله عن علمه من أين اكتسبه وفي ما أنفقه، فلا حاجة لنا بمعرفة عدد الكتب التي يقتنيها والعناوين التي انتهى من مطالعتها، ولا العبارات التي يجتزئها وينقلها لنا معتقدًا أنّ فيها ما يؤكّد ثقافته وعلمه وأدبه؛ فلا قيمة لكلّ ذلك مطلقًا إن ظهر لنا لاحقًا جهلُه، وقتها لن يرفع من مكانته أو يعلي شأنّه مباهاتُه ببعض “صور مزيَّفة”.