الصالحون الأخيار لا تخمد نار ذكراهم، فتهيج الذكريات حيناً بلا ميعاد، وتورث حزناً مبكياً على فراقهم، وألماً قاسياً على فقدهم، ومن أولئك فيما نحسبه: الشيخ العابد الحافظ لكتاب الله سعد بن عبدالرحمن بن العلامة الشيخ حمد بن علي بن عتيق -رحمه الله-.
العابدون لرب الخلق تعرفهم
ويعرف الفضل أقوام وأقوام
رجل غريب فريد في عصره، سلوكه وعبادته وصلاحه وتقواه مؤثرة فيمن عرفه، تميز- رحمه الله- بمزيد من العبادة وتلاوة القرآن، فالقرآن أنيسه، يتلوه ماشياً وقائماً وقاعداً وعلى جنب، قيام الليل زاده الذي يتغذى منه ويأنس به، فلا أبالغ إن قلت إنه يقوم أكثر ليله، وقليلاً من الليل ما يهجع، وأيم الله ليست مبالغة، ولا حكايات لا يعرف صحتها، ولا من المبالغات في السير، بل حقائق ثابتة، والعارفون له عليها شاهدة، أدركت ذلك الشيخ وكانت حياته- رحمه الله- فيها التذكير بالله،
والتشجيع على العبادة، وفيها الأنس والطرافة، وفيها الخير الكثير، فهو- رحمه الله- طيب المعشر، وأنيس مع أصحابه، وإذا اشتغل بالعبادة علته الهيبة رحمه الله.
من أين أبدأ في ذكر سيرته؟ أمن بداية حفظه للقرآن والمتون وطلب العلم؟ أم من شيء من عبادته؟ أم من كرمه؟ أم من كفالته بحق للأيتام؟ أم صيامه؟ أم حثه على الخير؟ أم أم؟
سأذكر شيئاً مما علق في الذاكرة، وإن كانت غير مرتبة فليعذر القارئ في ذلك، فهي خواطر، وفيض مشاعر.
اجتهد الشيخ سعد بن عبدالرحمن في سن مبكرة في حفظ القرآن، ثم اشتغل في طلب العلم وحفظ المتون، فقد ذكر في غير مجلس، وذكر ذلك عنه غيره أنه سافر للرياض لطلب العلم، فدرس على يد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم- رحمه الله-، وحفظ بعض المتون العلمية، ومنها ما ذكر بنفسه أنه حفظ عمدة الأحكام، و بعد طلبه العلم- رحمه الله- عاد للأفلاج، وتحديداً لقرية الأحمر تولى فيها الإمامة، وتعليم القرآن وتحفيظه، والإرشاد الديني، وكانت له حلقتان بعد الفجر وبعد العصر، وتولى التدريس في المدارس حينما فتحت في الأحمر، وتولى إدارتها، ثم انتقل إلى ليلى الأفلاج، وبعدها انتقل رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأفلاج.
كان من توفيق الله أن المسجد الذي يؤمه في الأفلاج قريب من منزلنا، وأحب أن أصلي فيه وأألفه، فسبرت كثيراً من تعبده في المسجد، ورأيت منه عبادة وتضرعاً وابتهالات إلى الله، وخاصة وقت الذكر بعد صلاة الفجر.
من رأى انقطاعه للعبادة وقراءته للقرآن على كل أحواله، زال عنه العجب حينما أقول إنه يختم كل يوم ختمة، وإذا كان صائماً في رمضان، وخاصة حينما يكون في مكة يختم ختمتين، فقراءته للقرآن عن ظهر قلب رأيتها دائماً على لسانه حتى وهو يمشي رحمه الله.
رجل قلبه معلق بالمساجد، ففي صلاة الفجر يمكث في المسجد حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح، ثم يصلي ماكتب الله له، ثم يخرج، وقبل الظهر بكثير لا يحس من كان في المسجد إلا بصوت عصاه التي يتوكأ عليها داخلاً للمسجد، ويخرج بعد الصلاة وأداء الراتبة، ثم يرجع قبل أذان العصر بزمن، وإذا صلى خرج ورجع قبل المغرب بزمن كثير، وفي وقت العصر لحظت أنه يخرج بعد الصلاة ثم يرجع خلال وقت قصير للمسجد ويمكث إلى أن يصلي المغرب- رحمه الله-.
حياته في المسجد- رحمه الله- دفعت الكثير للمكوث في المسجد وتلاوة القرآن، ووجوده مؤنس لمن فيه، كان- رحمه الله- إذا صلى صلاة الفجر وأراد الانصراف للمصلين فإنه يتقدم ليستند على جدار المحراب، فيطيل المكث- رحمه الله-، ويخرج أغلب من في المسجد وهو لايزال يلهج بالذكر ودعاء الله، وأسمع منه ابتهالات وتضرعاً لله، تحس فيها صدق لهجه إلى مولاه فيما نحسبه، أسأل الله أن يتقبلها منه، فيقرأ القرآن وهو على هذه الحال حتى ترتفع الشمس، ثم يصلي ما شاء- رحمه الله-.
كان- رحمه الله- مع كبر سنه وثقل جسمه وبدانته إلا أنه لم يترك الإمامة حتى مرض وفاته الذي لم يمهله إلا بضعة أشهر ثم توفي -رحمه الله-.
يقرأ بنا أحياناً فجر الجمعة سورة السجدة والإنسان، وإذا قرأها فإنك تحس بخفة في قراءته، ونشاط غير بقية الأيام، صوته بقراءة القرآن جميل جداً، ضبط وإتقان، بدون تكلف وتشدد في مخارج الحروف.
من عجيب أمره أنه يختم القرآن كل يوم مرة، وإذا كان صائماً فأحياناً ختمتين، ويحصل ذلك معه كثيراً في مكة في رمضان، فأدركته -رحمه الله- ولا يمكن أن نراه في رمضان إلا في مكة، فلا يهل هلال رمضان إلا وهو في مكة مع رفقة صالحة من كبار السن من أهل البلد، ولا يرجعون إلا إذا هل هلال شوال، يذهبون لمكة معهم سائق ومن يخدمهم ويجهز لهم المعيشة، وهو ومن معه ليس لهم عمل إلا العبادة وتلاوة القرآن، فيختم على هذه الحال في اليوم والليلة مرتين، وهو لا يتكلف ذلك، فقراءة القرآن لا تنفك من لسانه- رحمه الله-، يحصل يوم الجمعة أنه إذا خرج للمسجد صلاة الفجر فإنه يصلي بلباس يوم الجمعة، وعليه مشلحه من اللون (الليموني) كما يسمى، ويشرع في ختمة جديدة بعد الفجر، وإذا ارتفعت الشمس صلى ماكتب الله له، ثم توجه للجامع الذي يؤمه ويخطب فيه والدي الكريم - وكان يحب صلاة الجمعة معه - فإذا دخل الخطيب وإذا به يقرأ في جزء عم أوقد ختم القرآن، ومما رأيته منه في الجامع أنه لطول مكثه من الصباح الباكر إلى دخول الخطيب أنه يغير موقعه في الجلوس فيجلس في نصف الجامع في الصباح قبل أن يأتي أحد، فإذا بدأ الناس بالتوافد تقدم لمكانه المعهود خلف الإمام في الجمعة، وكان إذا أراد اتقاء براد التكييف فإنه يلتحف بطرف سجاد الصلاة.
حينما أقول لا تنفك قراءة القرآن عن لسانه يشهد له بذلك من عاصره، فمن العجائب أنه -رحمه الله- قدر الله عليه حادثاً مرورياً، أصيب فيه بغيبوبة عدة أيام، فيخبرني الوالد وبعض الذين زاروه وهو في حال الغيبوبة أنه مع إصابته وفقده للوعي إلا أنه يقرأ القرآن، يختم السورة ويشرع في الأخرى، وقد تكرر ذلك معه -رحمه الله- في آخر شهرين من حياته، حيث أصيب بكسر في الفخذ وبعدها تردت حالته الصحية، وأصبح لا يتكلم، وكأنه فقد وعيه، إلا القرآن فإنه مجرد أن تقرأ عنده آية من القرآن أو طرفاً منها فإنه يكمل من عندها.
عرف عنه- رحمه الله- الاجتهاد في قيام الليل، فلا يتأخر عن النوم بعد العشاء، لأن له مع الليل شأنا آخر، فينام قليلاً ثم يقوم أكثر ليله حتى يطلع الفجر، تأملت حاله فقلت: لعله عمل ذلك بعد ما كبرت سنه، وخف نومه، ولكن حينما سألت عنه أحد المعاصرين له أيام شبابه، وهو مجاور له في منزله أيام شبابه، وقلت له: هل كان على هذه الحال من قديم؟ فأجابني بقوله: (الله ربنا وربه من وقت شبابه وهو على هذه الحال قراءة قرآن وقيام ليل)، وذلك الحين كان الناس ينومون في أسطح منازلهم في الصيف، والجدار الفاصل بين البيوت ليس بالمرتفع جداً، فيقول جاره: إنه بعد العشاء مباشرة يصلي كثيراً، ثم ينام بما يعادل الساعتين تقريباً، ثم يقوم الليل ويصلي، ثم ينام قليلاً ثم يقوم ويصلي إلى الفجر، وسألته عن إمامته لهم في صلاة التراويح في قرية الأحمر، فقلت له من الذي يضبط عليه في الصلاة، ويرد عليه إذا أخطأ في القراءة؟ فرد علي بسؤال مستنكراً وقال: أبودحيم يحتاج من يضبط عليه؟! وقال: عادته إذا دخل شعبان يقرأ تلاوة في المصحف كثيراً فإذا دخل رمضان قرأ عن ظهر قلب في غاية من الضبط والإتقان.
إن من كانت هذه حاله وقت شبابه، وشاب على هذه الحال، ليدرك أنه فيما نحسبه قد رزق توفيقاً لطاعة الله.
ومن جميل صنعه وحسن ظنه أنه يحسب أن جميع أهل الصلاح يقومون الليل، فقد رأيته يتحدث مع أحد الأخيار في مجلس والدي في مغرب أحد الأيام، ويخبره عن مطر رآه مثل البارحة آخر الليل، وعن جمال ذلك المطر، ثم سأله: أما رأيته؟ فقال: والله ذلك الوقت كنت نائماً، فاستغرب منه الشيخ سعد نومه في ذلك الوقت، وأخذ يستنكر عليه نومه، ويقول له بنص العبارة: (وذا اللحية على صدرك ولا تصلي الليل؟!)، ونصحه بقيام الليل.
أسأل الله أن يتقبل منه، قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام نوافل وبذل وإحسان لا يتركه.
كان حديثه- رحمه الله- في المجالس ينضح بما تعوده من أعمال صالحة، فكثيراً مانسمع منه أخبار من نعرفهم ومن سبقونا ممن عاصرهم، وعن قيامهم الليل، وتارة يخبرنا عن حفظ القرآن وضبطه، ويقص علينا عن ضبط الحفاظ للقرآن ممن عاصرهم -رحمهم الله-.
مجالسه- رحمه الله- لا تمل، حث على الخير، ومؤانسة مع الصغير والكبير.
كان لوالدي وله فضل علي -رحمه الله-، فقد عودني -رحمه الله- على إمامة المصلين في المسجد، حيث كنت والوالد معه في مجلس خال الوالد الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إسحاق آل عتيق، نتناول القهوة بعد المغرب، وأنا أصب القهوة لهم، فتحدث الشيخ سعد عن إمامة المسجد، ثم حثني على إمامة المسجد، فظننته يضحك معي؛ فهو كان صاحب طرفة معنا، وأنا لا زلت في الصف الثالث المتوسط، فاستبعدت الجدية في الأمر، فتبسمت ونظرت للوالد لأقرأ مافي وجهه -حفظه الله-، فإذا به يؤيد كلامه ويتكلم بجد ويقول: وما الذي ينقصك؟ فأبديت استعدادي له، فأعطاني الطريقة بأن أبدأ بالإمامة في الصلاة السرية، فقال: إذا عزمت فتعال صلاة ظهر الغد، أقدمك في المسجد وأنا معك، فوافقت، فأتيت من ظهر الغد ولم أجزم بأنه سيقدمني للإمامة، فجلست بجانب المؤذن، فلما أقام المؤذن أشار إلي أن تقدم، فتقدمت، ثم قال لي بعد ذلك: استمر يوماً كاملاً حتى تصلي بهم الفجر، فتم ذلك، ومن حينها أصبحت نائباً له في رمضان وغيره.
كان -رحمه الله- عابداً زاهداً قريب الدمعة، فكم رأيته يبكي -رحمه الله- حينما يُقرأ عليه من الكتب، فللأسرة مغرب كل يوم اجتماع عند أحدهم، ويقرأ عليهم والدي -حفظه الله-، ومما قرأ علينا سيرة ابن هشام، وقرأ علينا في تفسير ابن كثير، وغير ذلك، فأكثر من مرة أراه متأثراً مما يُقرأ.
بل سمع مرة في السيارة قصيدة من قصائد الوعظ فأخذ يبكي متأثراً -رحمه الله-.
ومما حازه من الفضل كفالته للأيتام كفالة تامة، وليس مجرد أن يعطيهم مالاً فقط، فحينما كان يطلب العلم في الرياض، وعلم بأن ثلاثة أيتام من أبناء عمومته فقدوا من يرعاهم، وهم صغار، أكبرهم لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، طفل وطفلتان، سابق لكفالتهم، ولم ينتظر حتى يقدم للأفلاج، بل كتب مباشرة إلى زوجته بأن يكونوا عنده في المنزل، وألا يستضيق منزله من هؤلاء الأيتام، وقدم للأفلاج ورعاهم حق الرعاية حتى زوّجهم كلهم.
كان -رحمه الله- كريماً، مجلسه مفتوح للضيوف، وأكثر مايأتي الأضياف عنده، ومن ذلك ما تعوده حينما كان في قرية الأحمر من استقبال الضيوف بعد صلاة كل جمعة، وكان يبذل الخيرات على كل أحواله، فمن عجيب أمره أنه يستدين أحياناً ليعطي أناساً عودهم بالصدقة، بل لما توفي تفاجأ أبناؤه بأن عدداً من الفقراء كان قد أجرى لهم صدقات تعودوا على أخذها، وكان يخفي ذلك -رحمه الله-.
فضائل عظيمة قد حازها، أرجو الله أن يرفع درجاته في الجنة.
أعطاه الله حسن خلق، فلا يقابل الكبير والصغير إلا بالبشر والسرور، حتى الصغار يمازحهم، حينما كنا صغاراً يمازحنا، ويسألنا ضاحكاً، ويقول: (مريم بنت عمران من أبوها؟) فمن لم يجب ضحك عليه، ومن أجاب أعجبه.
يقول لنا أحياناً البيت المشهور:
منك الدقيق ومني النار أوقدها
والماء مني ومنك السمن والعسل
فيضحك ويعجب من تصرفات البخلاء.
ومن طيب قلبه ومحبته أنه إذا سافر الوالد بأهل البيت كلهم، وأطلنا المدة في السفر، ورجعنا بعد ذلك، وقدمنا للسلام عليه، بكى فرحاً ورحب، ويلومنا على إطالة المدة في السفر.
مضى سعد ومضت أيام سعد معه، وفقدناه وحزنا عليه وحزن عليه الكثير.
ولم يسد أحد مكانه في المسجد، ولا في كثير من أعماله، فقد طويت صفحته من الدنيا عام 1419هـ، وصلي عليه ودفن في الأفلاج، تلك أخبار متناثرة، عن عابد له في قلوبنا منزلة، أرجو الله أن تكون للعبادة دافعة، رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا الله به في جنات النعيم.
** **
كتبه: د. عبدالعزيز بن حمد بن سعد آل عتيق - إمام وخطيب جامع صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز بعرقة