كان طالبًا في الصف الثاني الثانوي حينما جاءه خطاب رسمي باسمه مُصدَّر بـ(سعادة الأستاذ)، إنه لقب لم يلقب به من قبل، وأنى له أن يلقب به، جاءه الخطاب فقرأه مرارًا، في كل مرة يقف عند اللقب أكثر مما يقف عند مضمونه، يتأمل فيه، ويتجلى هيبته، ويتذوق وقاره، ثم أسرع فعرضه على أبيه، وقرأه على أمه، وأخبر به صديقه المقرب، وجعل يضعه على حافة مكتبه، لعل أحدًا من أصدقائه يراه إذا اجتمعوا عنده مساءً في مكتبته الصغيرة.
كان مولعًا بالأدب، معروفًا بقول (الشعر) عند أهله وفي مدرسته، وطالما أزعج زملاءه بالقصائد يلقيها في الإذاعة الصباحية من مقوله ومنقوله، ولكم سمع من الثناء حينًا ومن النقد أحيانًا، فظل متردِّدًا أشعر ما يقوله؟ أم أن المجاملة غرَّته، وتشجيع أحبته خدعه، لكنَّ غرور الشباب قد يطغى حتى يترجح عنده أنه أحد شعراء بلدته، فجاء هذا الخطاب فصدق ظنه، وأكد شاعريته، لا يذكر معنى فيه غير الشاعرية يصلح أن يكون سببًا في وصول هذا الخطاب إليه!
كان الخطاب دعوة من رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية الصالحية في عنيزة (معالي الأستاذ عبدالله العلي النعيم) لحضور اجتماع مع بعض المهتمين في الشأن الثقافي، في مركز صالح بن صالح الثقافي، وهو أحد أنشطة هذه الجمعية، وذلك للتشاور حول تشكيل لجنة ثقافية، بهدف تنظيم العمل، والسعي في بناء خطة خمسية تبدأ من عام 1415هـ.
لقد ضم الاجتماع كوكبة من أعلام بلدته، كالشيخ عبدالعزيز بن محمد القاضي (صاحب العنيزية) أمد الله في عمره، والأستاذ عبدالرحمن التركي العمرو، والأساتذة الشعراء إبراهيم الدامغ، ومحمد السليمان الشبل، وعبدالرحمن المنير المساعد وحسين الفايز، والدكتور محمد الشامخ، رحمهم الله جميعًا، وغيرهم..
كان الموعد ضحى يوم الخميس 23 من ذي الحجة عام 1414هـ، فتأهب للحضور، ووصل المقر قبل الوقت بقليل، فإذا المدعوون يتوافدون واحدًا واحدًا، وهو نكرة لا يعرفه منهم إلا اثنان أو ثلاثة من أساتذته، أو هكذا قدَّر، فاجتمعوا في بهو المركز، يتحادثون فيما بينهم، حديث الأنس والمعرفة والصحبة، فكلهم متعارفون، متقاربو السن، متوافقو الاهتمامات، أما هو فهو المختلف بينهم، سنًّا ومعرفةً واهتمامًا.. إلا أن عنايتهم لم تغفله، فسأله بعضهم عن أبيه، فقد كان زميلاً لبعضهم، وأستاذًا لآخرين.
وما هي إلا دقائق معدودة، حتى دعاهم أمين الجمعية يومذاك الأستاذ محمد الخريدلي شفاه الله، أن هلموا إلى مكان الاجتماع.. فقام الجمع على حديثهم، يتمون ما بدؤوه ويختمونه.
كان الاجتماع في القاعة الرئيسة، وقد جعلوا المقاعد صفين متقابلين، فلما أخذ كل مقعده، ابتدر الأستاذ إبراهيم السبيل الحديث، بابتسامة عذبة، وبنظرات مقسمة على الحضور، ليشعر كل واحد منهم أن الحديث قد وجه إليه... ثم دارت دائرة الحوار، وجعل المتحدثون يتبادلونه ويتبادرونه.
لقد كان صاحبنا مُعمِلاً حواسه كلها فيما يسمع، لم يغفل عن كلمة واحدة، فلم يفته شيء مما يقال، ولكنه لم يستطع أن يجاريهم في فهم، أو يعانقهم في تصور، فضلاً عن أن يدلي معهم برأي! نعم.. لقد حاول أن يستوعب، واجتهد ليخرج بشيء، ولكنه عجز أن يظفر بشيء، كان الطرح أعلى مما عنده، والحوار فوق ما لديه.
توالت الاجتماعات أسبوعيًّا، وهو مواظب على الحضور، ملازم للصمت، فلا قدرة على المداخلة، ولا حصيلة من معرفة، أو بقية من خبرة، ولا فائدة يضيفها، أو فكرة ينقدها، لقد لُزَّ في قرَن فلم يستطع صولة ولا جولة، فكان الاستماع وحده هو نصيبه من حضوره.
وكان من حسن حظه أن لم يلجئه إلى الحديث ملجئٌ، أو يَسُقْه إلى الإدلاء بدلوه مقام، إلا مرة واحدة، لما رأوا أن يشكلوا لجنة، فكان الأستاذ إبراهيم السبيل يعرض عضويتها عليهم واحدًا واحدًا، فمنهم من يوافق، وهم القلة، ومنهم من يعتذر، حتى إذا وصل إليه، وعرض عليه الانضمام، وكان بجواره أحد أساتذته، وكزه أستاذه بمرفقه وكزة خفيفة خفية، يشير إليه أن ارفض، وكان قد عزم على الرفض من قبل الوكزة، فاعتذر، إلا أن ثقة الأستاذ إبراهيم لم تدعه، فأصر عليه، فاعتذر بقلة الخبرة في هذا المجال!
لقد جاءت الوكزة من نصح محض، ولكن صاحبنا لم يكن بحاجة إليها، فقد عرف حدود مقدرته قبل أن يعرِّفه بها أستاذه، وتمنى أن لو كان اتخاذ قراره دون وصاية من أحد.
لقد أدَّبته تلك التجربة أبلغ ما يكون التأديب، فقد كان درسًا عمليًّا أراه مكانه، وعرَّفه حجمه، فإن سرى إلى نفسه شيء من عُجب، أو غره فيها شيء من غرور، تولَّت ذاكرته تقليمه وتهذيبه، حتى عرف أن أمامه طريقًا طويلًا قبل أن يستحق أن يكون عضوًا فاعلاً في هذا الجسد، ومع هذه الكوكبة، وأدرك أن اللقب لا يغير من الواقع شيئًا، وإن خلعته عليه المجاملة، أو قلده إياه حسن الظن، وتوسم المقدرة، والإنسان أبصر بنفسه، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم