قصيدة متداخلة الأصوات والأزمنة، اشتغل الشاعر عليها اشتغالا مزدوجا، فاختار بحر الخفيف ذا الموسيقى الرمادية الصالحة لكل الأغراض، فلا هو بالصاخب الظاهر ولا الخافت المتواري، وتعمّد قافية ساكنة تكتم الإطلاق وتسمح بأنين الهاء الخافت، وزخرف حروفه وزركشها على طريقة العرب الأوائل، لاحظ الحاءات في البيت الأول (حبنا، أرحل، حين) والصادات في البيت الثاني (نصفين، صوتا، نصفها)، ثم تأمل باقي القصيدة تجدها من هذا النّجار. ثم لعب بالأزمنة على أسلوب (الحداثويين) كأنك أمام فيلم سينمائي يبدأ من آخر لقطة ثم يراوح بين الحالي والماضي ويفتح النهاية على المستقبل، وغيّر في الخطاب وأسلوبه وفرّخ من الاثنين ثلاثة (مناي، هوانا، غيابك) وعمّى علينا الحبيبة فما عدنا نعرف كنهها، أمن لحم ودم هي؟ أم هي فكرة؟ أم قصيدة؟ أم شيء آخر نحسه وندرك تأثيره ولا نستطيع له تحديدا.
نحن إذن أمام تجربة فريدة! فراق دون توجع ولا صراخ ولا ندم انعكس على اللغة والموسيقى ومد ظلاله على التراكيب المصوغة بعناية، فقد استخدم الشاعر ظرف الزمان سبع مرات في ثلاثة عشر بيتا (حين 3 مرات، لما، كلما، متى ما، عندما) كأنه أستاذ علوم «يقصر الزمن عندما تزداد السرعة»، ما العاطفة التي استبدت بالشاعر وجعلته يُخرج الكلام هذا المخرج؟ هل كانت عواطف خافتة، أم ملتبسة أم مترددة أم مكتومة؟ أم خليط عواطف متفاوت الكثافة! هل كُتبت القصيدة بعد حين من التأمل فأعاد الشاعر تركيب عالمه على تؤدة؟ أم كُتبت في رائعة الأحداث ولكن ارتباط الشاعر بـ(هي) ارتباط لا يترتب على فقدانه خسران مبين، والدليل أنه ينتظر غيرها كشرفة تطل على شارع الزمن. وهل يخاف الشاعر على حبيبته منا! تنظر في القصيدة لتجد خطاباً موجّهاً إلى الحبيبة فلا تجده إلا محطتين (أنت؟ ما أنت؟) و(لم تبقي لنا مكانا لنرسم ضفة)، فإذا كررت النظر في المحطتين تجده أسبغ عليها شحنة ضخمة من تحقير الاستفهام (أنت؟ ما أنت؟) ولؤم الوصف (جرح كسول) ووضاعة النتيجة (نسيناه) وتعميم الضرر (لم تبقِ مكانا -لنا- لنرسم ضفة)، هل أمعن الشاعر في إهمالها فتحدث عن أسباب ونتائج فعلتها فلما غلت الذكريات في عروقه شتمها بالتعريض دون التصريح وبأدب جم ونبل نفس، أم إنه لا يعدها المسؤولة الوحيدة عن النتيجة (الرحيل)، إن هي إلا ضحية أخرى من ضحايا الواقع.
تجربة فريدة، يقف الشاعر فيها على الحد بين طرفين استهلكهما الشعر، أدناهما التماوت على أطلال الحبيبة وأقصاهما لعنها ووصمها بالخيانة واتخاذ خدن وحبيب جديد، وبين الطرفين لا يقف إلا نبيل واثق عاقل متزن، وهو مع هذا الاتزان قادر على تخليد اللحظة بقصيدة، ما أصعب ما أقدم عليه!
تبدأ القصيدة بمشهد شعري تبثه الجملة الاسمية الأولى (صدفة حبنا) كأنها ترتيل لذيذ على مقام العجم يبدأ به القارئ لتهيئة آذان السامعين، فما أن تتذوق حلاوة الحب في (حبنا) واجتماع المحبَينِ في (نا) وتستحضر الصدفة وما يرافقها من نشاط وانتباه، حتى يفجعك النص بـ(وأرحل صدفة) في تحول درامي من الجملة الاسمية إلى الفعلية ومن الاستقرار إلى الرحيل، كأن الشاعر رفعك لقمةٍ ثم رماك لترتطم بالأرض فتستيقظ من غفلة الاعتياد وتنتبه لتلقي القصيدة.
هذا الانقلاب المفاجئ للسامع والرحيل المفاجئ للطرف الثاني كأنه صدفة، لم يكن كذلك لصاحب التجربة، لا بد أن الأمر تطور وتمادى حتى وصل العتبة التي قرر عندها الشاعر الرحيل وها هو يؤكد مفهوم الزمان المستغرَق في مواجهة الحبيبة وسلوكها فيكرر (كلما ولما وحين) حتى وصل لمفترق الطرق فتركها وأهال التراب على ذكراها، كما تطور الناي في ملاحظة تغييرات عزفه حتى أنكره ولم يتعرف عليه وقرر إيقاف العزف، فاللحن الذي يعرفه صار مجرد صوت، اختفت النغمات واختلف الإيقاع واضطرب، ولم يعد ممكناً أن يلتقي الصوت (بوصفه حاملا للحن) باللحن نفسه، ثنائية حادة يبدو أنها نتجت من ثنائية أخرى ألمت بالحبيبة وشطرتها نصفين فانشطرت العلاقة نصفين، فمتى نصفـ(ها) يعانق نصفه الثاني؟ متى تتحد المحبوبة فتصير كيانا واحدا ومتى تتحد العلاقة مرة أخرى فترجع كيانا واحدا (نايا وعزفا)، (لحنا وصوتا) والجواب هيهات!
قيل: إن «القصيدة وليدة صعوبة في تفهم الواقع بطريقة عملية أو علمية»، والشعر يعيد ترتيب الحياة وفق رؤىً تخالف المعتاد والشائع وتتعارك معه، ولعل المتلقي يسأل: لماذا انتظرتما حتى وصلتما لعتبة الرحيل؟ والسؤال الصحيح لماذا انتظر الشاعر حتى وصل لهذا القرار؟ فنحن لا نعرف روايتـ(ها) للأحداث، نحن أسارى رواية الشاعر منتصرا كان أم خاسرا، والشاعر يجيب مرتبا العالم على رؤاه:
لم نحتفل بمنجزاتنا الصغيرة، بريشنا أثناء نموه، لم نصفق له، فرفّة الريش ولو كان صغيرا قد تفتح آفاقا لأن العالم بعد حركة الريش ليس العالم قبله والعالم بعد التصفيق ليس العالم قبله، ما الرفة إلا حركة واهتزاز سواء جاء من حركة الريش أو من حركة اليدين، ألم يقولوا (أثر الفراشة)!
لماذا نصفق للريش أثناء نموه، هل كان ريشا يواري السوءات؟ لم نحتفل بهذا الريش الذي يعدّل مسيرتنا ويعزز تجربتنا، هذا الريش الرمز يمكن أن يكون اتفاقا أو تفاهما يخص أجزاءً من التجربة المشتركة يغطي عيوبها ويضمن استقرار المستقبل، فالريش التفاهم الاتفاق، نُسي وأهمل ولم يُحتفل به ولا بتنفيذه، والشاعر يتسامى فوق المعتاد فيقر بجزء من المسؤولية بل بنصفها فيقول «لم نصفّق»..
هكذا انتهت العلاقة على فتور!
فتتاركنا على غير شيء? ربما أفسد طول التمادي
يجلس الشاعر معنا في مقاعد الجمهور ويصف الأحداث التي جرّت للرحيل، مسندا الأفعال والانفعالات للمعاني والأشياء، يقول: وقف الشوق منتظرا الوعد وانحنى الظل (هكذا بأل التعريف غير منسوبة ولا مضافة)، فهل أراد استغراق كل الشوق وكل الوعد وكل الظل؟
ينتظر الشوق -في شدة الحر- تحقيق الوعد، فما تحقق شيء وانحنى ظِلُّ الشوق وظَلَّ كل شيء في المشهد، والظِلُّ لا ينحني مع الانتظار بل يمتد ويزيد حتى يختفي وما انحناؤه إلا تعبير عن تضاؤل الشوق كأنه رجل دبت فيه الشيخوخة فانحنى وانحنى ظله وشاخت الأشياء وانحنى ظلها، كم دهرا انتظر الشوق!
في هذا الشوق حزن وحسرة فقد قارب صاحب الشوق قطف ثمرة الحب فإذا الحب يسخر منه، والشوق عند الشاعر فيه حزن، ففي الشوق إذن شيء آخر غير الحزن، فيه تحمّل وتناسٍ وفيه اتساع وجلد كاتساع الصحراء وجلدها، فما (هي) إلا جرح كسول ضيّع نزفه عندما أهمل الحبيب وتناسى آماله، وكذلك اليوم تُنسى.
مرة أخرى يبعثر الشاعر الزمن ويعود للحظة سابقة فارقة، كان يغضب ثم تغلبه المنى فيجنح للسلم فلا يجد منها إلا سيف الغياب معلنا الحرب عليه وعلى مناه، فتضمر المنى وتتلاشى وتتجمع الخيبة ويشتد تصلدها طبقة بعد طبقة، الغياب إهمال والغياب هجر والغياب ترك للحبيب في العتمة تأكله الأفكار والمشاعر، الغياب اختمار للمعنى في صدر شاعر لا يجد حرفا يفرغ فيه معانيه. وهذا تشبيه لا يفهمه إلا من عانى شدة الشعر وعسفه.
فمن منهما اتخذ قرار الرحيل؟ هو الذي تراكمت على ظهره الأثقال أم هي التي اخترعت الأسباب ثم لجت وعتت وأوجدت بحرا من الأسباب لا ضفة له، فاتخذ قرار الرحيل متحملا مسؤوليته!
وانظر إلى الحبيبة المنقسمة المفصومة، نصفُها يحارب الشاعرَ ونصفَها الآخر، رسم المخرج مشهدا بديعا: جبهتان تعتدي إحداهما على الأخرى، الجبهة الأولى المعتدية تمثلها نصف الحبيبة والجبهة الثانية المعتدى عليها يمثلها الشاعر ونصف حبيبيته.
وهكذا تتناغم الضمائر لتصور انفصام شخصية المحبوبة، هوا(نا)، غيابـ(ك)، حبـ(نا)، أبدعـ(تِ)، لـ(نا).
تنتقل القصيدة انتقالات سريعة بين الماضي والحاضر، ففي لحظة ما لعلها في البدايات الأولى كانت التجربة تعد بالكثير، الكثير الذي وصل حد الغنى الزائد والتوسع في الوعود والأغاني، فلما حان أوان قطاف الوعود تخلفت سلة المواعيد، ولم تمتد يد الفلاح لحدائق الشوق تحصد الثمر، بقي الثمر على أمله فنضج واستوى ومات.
كان وقع التجربة هائلا وتحوّل الشاعر الفاعل لمراقب منتظر لا يشتبك مع الواقع بل ينتظر ويراقب بحياد كما تفعل شرفة تطل على شارع الأحداث. وسط هذه القسوة وأمام هذه النتيجة الفادحة يتسامى الشاعر مرة أخرى ويعزو فوات القطاف لغياب سلة المواعيد، لتقاطعات الزمان والمكان والأحداث، فالمواعيد كلمة ساحرة مفتوحة على كل الآفاق، المواعيد جمع ميعاد والميعاد وقت الوعد والميعاد موضع الوعد والمواعيد جمع موعود وهو اسم المفعول من وَعد، تقال للشخص الموعود وللشيء الموعود به.
هكذا تفتح هذه اللفظة الجامعة الذكية النص على كل الأسباب على الزمان والمكان والناس والأشياء، كل من ساهم في النتيجة الفادحة بما فيها الشاعر نفسه وكل تفاعلات الأسباب وتوقيتاتها. وقد اختار الشاعر (سلة المواعيد) عنوانا لقصيدته ليقول: إنّ أسباب النتيجة سلة مواعيد وإنّ المستقبل مليء بالمواعيد.
** **
- محمود الجمل
@mahaljamal