يظهر لي أن الإنسان هو المعضلة الكبرى في هذا الكون، وأعني أنه معضلة من حيث تمركزه حول ذاتيته المُلحة، ومن حيث يكون هذا التمركز - ويا للغرابة - هو الطريقة الوحيدة لفهم الفهم، وإضفاء المعنى على لمعنى، ووضع تصورات مبدئية واستقراءات أولية لأسئلته الشكوكية الكبرى التي ستظل إجاباتها معلقة في فضاء الـ (ربما) إلى الأبد. من هنا كان من المهم أن يضطلع الأدب بصفته فرعًا من الثقافة بمهمتين: الأولى هي الدوران حول المحور، لا دورانًا مكررًا في سياق التقليد والعبث، إنما دورانًا ينقلب في كل مرة على المنهج السابق، بمعنى العود المستمر إلى الوجود، والثانية هي إذكاء روح (الديالكتيك) أو الجدل الفلسفي حول ماهية هذا الإنسان؟ وما هي غاياته؟ ذلك ليعرف الإنسان أن الحيرة ستظل تلازمه في مسألة وجوده بنفس الطريقة التي تحيط بها مسألة عدمه الغامض.
إن أول ما يبدأ الإنسان بمحاولة اكتشافه، هو جسده. وذلك حين يبدأ الرضيع في التعرّف على أعضائه، ولاحقًا: سيظل ذلك الإنسان نفسه، الساذج نفسه، المحتار نفسه، مشغولًا بمحاولة حل مسألة غموضه التي تزداد غموضًا كلما ازداد نوعه، وتقادم عمر وجوده على هذه الأرض، وتأصلت في داخله أسباب هذا الوجود، ومع ذلك لن يحل اللغز، بل سيظل ذلك اللغز عصيًا على الوعي، وستبقى الأنا المجهولة هي أساس كل القضايا الفكرية والإدراكية. لذلك فإن الفلسفة الوجودية هي الأساس لأي كتابة أدبية، إذ على كل كتابة أن تفترض إجابة ولو لم تكن مباشرة عن سؤال قديم: (ما هو الإنسان؟!). وقد راجت العديد من الأعمال الأدبية التي عبرت عن أفكار فلسفية ناضجة حول البشرية والطبيعة وبدايات الفلسفة ونظرياتها وترابط هذه المكونات والعناصر مع بعضها البعض: مثل عالم صوفي، وما كتبه فردريك نيتشه «هكذا تكلم زرادشت». ومما أذكره أيضًا ما كتبه جان بول سارتر الذي ألف رواية فلسفية بعنوان «الغثيان». أما الروائي التشيكي «ميلان كونديرا» فقد قدم الكثير من الأطروحات حول أهمية الفلسفة في الرواية وما بينهما من علاقة متقاربة أو متضادة. فضلًا عن رواياته التي تتصف بعمق فلسفي.
ليس من غير المعلوم أن العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة ملتبسة، فمنذ قديم الزمان طرد أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة على اعتبار أن الشعر ليس إلا إيهامًا للحقيقة. ومع ذلك: فقد كتب أبو العتاهية وغيره من شعراء العرب نصوصًا شعرية تفيض بالفلسفة. ولكن كان هناك دائمًا ثمة مشكلة لدى العرب تحديدًا، ليست في المقدرة على التشكل الفلسفي في القوالب الأدبية، أو اكتساب صيغة الاستمرارية. ولكن كانت المشكلة التاريخية هي: أن سُلطة التأويل/السلطة المجتمعية المكتسبة من سطحية الفهم لدى العقل التابعي، قد تصادمت مع العقل الفلسفي المتحرر، ولأن الكثرة تغلب (التفلسف) بالضرورة، فقد أحبطت كل محاولة أدبية للوجود. وهذا ما جعلنا نتأخر فلسفيًا، وللسبب نفسه أفضت النتائج إلى ضجيج هامشي من النصوص والشذرات الأدبية الساذجة، أو الكتابات الباهتة، مما يجعل وجودنا الأدبي ليس بأفضل من العدم إن لم يكن أسوأ.
ليس شعورًا جميلًا على كل حال أن تكتب وأنت مكبل بأغلال متعددة. وليس ترفًا أن تمتلك خيارين لا ثالث لهما، إما أن يبقى عملك حبيس الأدراج لأن الرقابة سوف تعتبره مشروعًا يمس بأحد أضلاع الثالوث المحرم، أو أن تشذب عملك حتى لا يبقى من أصله شيء. وحتى تتخلص من هذه الخيارات لم يعد هناك إلا طريقة واحدة، هي التمويه والترميز، وهذا ما يحتاج في نهاية الأمر إلى جمهور نخبوي واعٍ بمعضلات الإنسان وصراعاته مع نفسه.
وهنا تعود تهمة التعالي والنخبوية لتلتصق بالأدباء والمثقفين!
** **
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com