د.عبدالله مناع
عندما وصل «دونالد ترامب» إلى البيت الأبيض.. في واحدة من أكبر مفاجآت انتخابات الرئاسة الأمريكية كتلك التي جاءت -من قبل- بـ(الدُهُول) جيرالد فورد ليكون الرئيس الثامن والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، الذي قيل عنه بعد المائة يوم الأولى من رئاسته، إنه يشبه الساعة (الرادو) اليابانية الشهيرة: (لا يقدم ولا يؤخر)..! أو كتلك الانتخابات الأعجب التي جاء بـ(الممثل السينمائي رونالد ريجان) ليكون الرئيس الأربعين للولايات المتحدة.. بعد أن فاز في مناظرتها الأخيرة بـ(تسريحة) شعره وأناقته السينمائية!! أو كتلك الانتخابات الغريبة التي جاءت بـ(عبيط) آل (بوش)، الذي لم يكن يحسن حتى التحدث بلغته (الأم)! ليكون الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.. فـ«ترامب» الذي أمضى معظم سنوات حياته كرجل أعمال.. حتى بلغ السبعين من عمره كان مثله مثل (الممثل) ريجان و(الدُهُول) أو (العبيط) -كما كانت تسميه والدته- جورج بوش الابن الذي تم (تجهيزه على عجل لخلافة (الرئيس بيل كلينتون).. انتقاماً لـ(والده) الرئيس جورج بوش الأب، الذي حرمه (كلينتون) من استكمال مشروعه الإمبراطوري.. لا يفقه في (السياسة) شيئاً كثيراً، ولكن مدير حملته الانتخابية أعطاه المفتاح الذي يوصله إلى البيت الأبيض.. بذلك العنوان الكبير والجذاب (أمريكا القوية أولاً حتى تستعيد مكانتها وهيبتها في العالم)، فاستجاب الناخبون الأمريكيون بـ(شعار حملته).. ليصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، ليكتشف الأمريكيون والعالم خلال سنواته الثلاث في البيت الأبيض.. بأن شعار حملته الانتخابية لم يكن بأكثر من شعار خادع!!
فلم ير الأمريكيون منه شيئاً.. بل رأوا (أمريكا القوية أولاً) تسعى لـ(التفاوض) مع طالبان في أحراش أفغانستان (رأساً برأس)!! (أمريكا القوية أولاً) تسحب قواتها من شمال شرق سوريا أمام الاتحاد الروسي، وأن حلف (الناتو) الذي يشكل قوة أمريكية ضاربة أخذ يتهاوى في عهده حتى قال عنه الرئيس الفرنسي ماكرون إنه في (حالة موت سريري)! وفي المقابل.. أخذت إدارة ترامب - وأمريكا القوية أولاً - تتمسح بـ(إسرائيل) ودعمها في الانتخابات الإسرائيلية الماضية حتى يفوز (حزب) الليكود ويكلف رئيسه (نتنياهو) بتشكيل حكومته الخامسة، وهو ما لم يحدث حتى الآن على نحو قاطع - طلباً في دعم اللوبي.. اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية - لحملة انتخابات (ترامب) لدورة ثانية إن نجا من الكونجرس وملاحقاته القانونية والقضائية، وهو يقدم لـ(إسرائيل) الهبات بعد الهبات.. فيما لا يملك ولا يحق له شرعاً وقانوناً واتفاقاً إلا إذا ساد حكم البشرية (قانون الغاب) كما قال صائب عريقات!!
كانت أولى الهدايا أو الهبات التي قدمها «ترامب» في أواخر سنته الأولى في البيت الأبيض.. هي (إعلانه) في إحدى تغريداته على حسابه في «تويتر» عن نقل مقر سفارة بلاده من (تل آبيب) إلى (القدس الشرقية) - عاصمة الدولة الفلسطينية - عند قيامها.. مضيفاً إلى ذلك الإعلان في مشاهد تلفزيونية هزلية وهزيلة جرى تصويرها في البيت الأبيض، وهو يوقع على ما أسماه بـ(وثيقة) اعتراف الولايات المتحدة بـ(القدس الشرقية) عاصمة لدولة (إسرائيل)!! ليثور عليه وعلى قراره (العالم) كله.. بمنظماته وهيئاته من الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى مجلس أمنها إلى (الاتحاد الأوروبي) إلى مجلس التعاون الإسلامي إلى (الجامعة العربية) ومجلس التعاون الخليجي بل والصحافة الأمريكية نفسها، ومع ذلك استمر «ترامب» على قراره دون تراجع رغم النصائح التي تلقاها من خلص أصدقائه العرب، إلا أن أخبار الشروع في نقل السفارة الأمريكية من «تل آبيب» إلى «القدس الشرقية» اختفت من وسائل الإعلام، وهو ما قد يعني تجميد (القرار).. دون الإعلان عنه حفظًا لماء وجه «ترامب»!!
لكن مع إطلالة عام 2018م.. عاد «ترامب» ليقدم المزيد من هداياه وهباته لـ(إسرائيل).. عندما أعلن في إحدى (تغريداته) عن (نزع) السيادة العربية عن مرتفعات الجولان العربية السورية المحتلة عام 1967م من قبل إسرائيل ومنحها لـ(إسرائيل)!! وهو يعلم بأن ذلك يمثل قمة (المحرمات) الدولية التي نص عليها ميثاق منظمة الأمم المتحدة عند التوقيع عليه من قبل الدول التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، بل وجرى تأكيده بعدها عبر اتفاقيات جنيف الأربعة الشهيرة.. بل يعلم بذلك حتى طلبة السنة الأولى في كليات الاقتصاد والعلوم السياسية!!
على أي حال.. ومع مجيء سنته الثالثة في البيت الأبيض (2019م).. وخوفه من نجاح مشروع عزله، الذي يسعى له الحزب الديموقراطي بكل قوته وحججه بعدم نجاحه في انتخابات الدورة الثانية له في البيت الأبيض في نوفمبر من عام 2020م.. فقد رأى أن يقدم أعظم هباته وهداياه لـ(إسرائيل) قبل أن يسرقه الوقت، إذا ما تم عزله أو عدم نجاحه في الانتخابات الأمريكية القادمة.. فأعلن الشهر الماضي بأن: (وجود المستوطنات الإسرائيلية في أراضي الضفة الغربية لم تعد غير شرعية)!! ليتولى وزير خارجيته (مايك بومبيو) شرح مسوغات قرار «ترامب» قائلاً: (بعد دراسة جميع أوجه الجدل القانوني بعناية توصلت الولايات المتحدة إلى أن المستوطنات الإسرائيلية «المدنية» في الضفة الغربية في حد ذاته لا يتعارض مع القانون الدولي)!؟ بينما الموقف الأمريكي السابق الذي تم الإعلان عنه بعد عام من عدوان (يونيه) 1967م أي في عام 1978م، وقبل محادثات (كامب ديفيد) بين السادات وبيجن برعاية الرئيس جيمي كارتر كان يؤكد (أن إدارة الرئيس جيمي كارتر توصلت إلى أن بناء المستوطنات الإسرائيلية المدنية مخالف للقانون الدولي)!؟
ليصبح ذلك (الموقف) من حينه أحد أهم وأبرز السياسات الأمريكية في الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي أعطى الولايات المتحدة وجهاً نزيهاً مشرفاً على مستوى العالم كله فضلاً عن العرب أصحاب القضية.. ليأتي «ترامب» بـ(عشوائيته) وتهوره ليبدل تلك الصورة الأمريكية النزيهة المشرفة، التي قدمها الرئيس جيمي كارتر.. والتزم بها جميع الرؤساء الأمريكيين من بعده إلا «ريجان»، ليرفضه الفلسطينيون على لسان كبير المفاوضين «صائب عريقات»، ولكن أهم من الفلسطينيين ورفضهم كان رفض الاتحاد الأوروبي الذي (جدد موقفه الذي يعدُّ النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني بموجب القانون الدولي، ويقلل فرص التوصل إلى سلام دائم)، لتجدده السيدة (فيدريكا موغيريني) مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي.. عندما قالت في بيانها الرسمي الصادر عن الاتحاد الأوروبي: (إن الاتحاد الأوروبي يدعو إسرائيل لإنهاء كل النشاط الاستيطاني.. في ضوء التزاماتها كقوة محتلة).. دون أن تعير ما قاله «ترامب» وفلسفه «بومبيو» أي اهتمام أو عناية.. لأنه كلام متهور لا عقلانية فيه!!
فـ(شرعنة) الاستيطان الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية المحتلة، إنما يعني دعوة إسرائيل لـ(اغتصاب) المزيد من الأراضي، وهو يعني ضمناً الدعوة إلى (حرب) جديدة بينهما!
فـ(الخمسة مليون فلسطيني الذين يعشون بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ورغم محدودية إمكاناتهم القتالية.. لن يصمتوا أو يستسلموا، بل سيحاربون من أجل الدفاع عن أراضيهم.. وعن وطنهم.. إن لم يكن اليوم فـ(غداً)!!