د.عبدالله مناع
مشكلة لبنان.. هذا البلد العربي السياحي الجميل بـ(موقعه) ومناخه، والأجمل بـ(حريته) و(ناسه)، الذي يحبه ويخاف عليه كل العرب.. هي في أزماته السياسية المتلاحقة بعد خروجه من الحرب الأهلية عام 1990م، التي استنزفت من عمره وشبابه خمسة عشر عاماً.. فهو لا يطوي (أزمة) إلا وتلاحقه أخرى؟! لعل أبرزها في الخمس السنوات الأخيرة هي أزمة انتخاب رئيس خلف للرئيس السابق «ميشال سليمان»، الذي قدم استقالته ورفض التجديد أو (التمديد) له، وآثر الاستقالة ومغادرة «بعبدا» مأسوفًا عليه.. ليعاني لبنان- بعده - من فراغ رئاسي مميت.. امتد لثلاثين شهراً! ولولا انسحاب (سمير جعجع) من ترشيح نفسه لـ(الرئاسة) ما كان لينال شرفه لو لا «مارونية».. العماد (ميشال عون)، ولو لا انضمام كتلة (المستقبل) في المجلس النيابي اللبناني السابق بـ(نوابها) الثلاثة والثلاثين لتأييد ترشيح «العماد عون».. لما حصل على أصوات الخمسة والثمانين نائباً التي فتحت له أبواب (قصر بعبدا) ليكون الرئيس الخلف للعماد ميشيل سليمان، ليرد عون بدوره على كتلة المستقبل.. بـ(تكليف) رئيسها (سعد الحريري) بـ(تشكيل الحكومة) خلفًا لحكومة (الرئيس نجيب ميقاتي)، وقد استطاع الرئيس الحريري تشكيل حكومة ذات كفاءة عالية، عاش معها اللبنانيون في بحبوحة خليجية.. من السياح والاستثمارات لأكثر من عامين.. إلى أن انتهى الجدل الطويل نيابياً حول تعديل «قانون الانتخابات» اللبناني، الذى تم إنجازه أخيراً في عام 2017م.. لتجري في عام 2018م أول انتخابات نيابية لبنانية بعد تسع سنوات من الصمت والصيام الديموقراطي.. حيث كان المجلس النيابي السابق يجدد لأعضائه كل أربع سنوات.. حتى بلغت سنوات العضوية - لكل نائب - منهم ثلاثة عشر عاماً!!
* * *
لكن نتائج هذه الانتخابات - بعد تعديل القانون الانتخابي - لم تكن مواتية لتيار (المستقبل) وتكليفه بتشكيل (الوزارة).. حيث فقد فيها أحد عشر مقعداً ومعه (الأغلبية)، التي كان يتمتع بها، والتي تؤهله لتكليف الرئيس (سعد الحريري) مجدداً بـ(بتشكيل) الحكومة للمرة الثانية!؟ وهو ما أوقع الرئيس (ميشيل عون) في حرج دستوري، ولكنه مع ذلك.. آثر (مصلحة) لبنان واتخذ قراره السياسي وليس الدستوري بـ(تكليف) الرئيس سعد الحريري مجدداً بـ(تشكيل) الحكومة الثانية. فسعد الشارع اللبناني بقرار (الرئيس عون) وبتكليفه مجدداً لـ(الرئيس سعد الحريري)، ومعه مؤيدو (كتلة المستقبل) في داخل لبنان وخارجه!؟ لتمضي الشهور الأولى من عمر هذه الوزارة في دعة واستقرار وبحبوحة نسبية من العيش الكريم، إلا أن (الوزارة اللبنانية) أخذت مع انتهاء الشهور الأولى من عام 2019م في: مناقشة ميزانية الدولة اللبنانية لعام2020م.. لتكتشف أن هناك (عجزاً) فيها بين الإيرادات والمصروفات، وأن أحد سبل سد هذا العجز.. هو في فرض ضرائب جديدة على المواطنين اللبنانيين!! وكان يمكن لهذه المداولات أن تبقى في طي الكتمان داخل أروقة الوزارة.. ربما لـ(إعادة) النظر فيها أو إلغائها من قبل الوزارة نفسها أو من قبل المجلس النيابي عند عرض (الموازنة) عليه.. لأن (الوزارة) تعلم والرئيس سعد الحريري يعلم بأن فرض أي قدر جديد من الضرائب على المواطنين في بعض دول العالم الثالث.. فإنه عادة يشعل حريقاً من الاعتراضات عليه، والرفض له بما قد يودي بالوزارة، ويحملها على الاستقالة!؟ ولا أظن أن الرئيس سعد الحريري - وهو شاب ما يزال في عز شبابه - قد سقط من ذاكرته ما حدث في العاصمة اليمنية «صنعاء».. عندما أخذ الرئيس عبد ربه منصور هادى قراراً بناء على نصيحة مجلس وزرائه قبل ستة أعوام برفع «الدعم» الحكومي عن المحروقات من البنزين والديزل، ليثور الشارع اليمنى بقيادة أبناء «صعدة» بحجة الدفاع عن غير القادرين من اليمنيين، ثم ظهر فيما بعد أن لهم أجندة أخرى.. هي أجندة تعطيل (المبادرة الخليجية) فالاستيلاء على (حكم اليمن).. إن استطاعوا! فإذا حدث وإن نسي الرئيس الحريري ما حدث في «صنعاء» فإنه بالتأكيد لم ينس ما حدث في (باريس) العام الماضي.. عندما قررت حكومة الرئيس إيما نويل ماكرون رفع أسعار «البنزين».. ليمتلئ الشارع الفرنسي بلابسي (القمصان الصفراء) الرافضين لتلك الزيادة والمطالبين بتحسين المرتبت والأجور، ومع أن الرئيس ماكرون سارع بإلغاء قرار الحكومة، ووعد بتحسين مرتبات جنود الأمن وأجورهم إلا أن أجمل شوارع العالم في باريس «الشانزليزيه».. كان قد تحطم تحت أقدام لابسي السترات الصفراء، ولم ينج منه غير تمثال (قوس النصر) التاريخي الفريد في تصميمه وجماله.
* * *
فإذا كان لا أحد يعرف كيف تسربت أنباء تلك الضرائب اللبنانية الجديدة إلى الشارع.. إن كان بـ(قصد) أو عفوية أو كان بسوء نية! إلا أن ساحة (رياض الصلح) في قلب العاصمة اللبنانية «بيروت».. كانت تحتشد بعشرات الآلاف.. من اللبنانيين لـ(رفضها) والمطالبة بـ(إلغائها)، وقد أحسن الرئيس سعد الحريري عندما ظهر في الأيام الأولى من تلك المظاهرات على شاشات التلفزيون لـ(يستمهل) المتظاهرين لاثنين وسبعين ساعة حتى يتدبر وأعضاء مجلس وزراته الكيفية التي يمكن بها إلغاء تلك الضرائب لسد عجز موازنة عام 2020م، ليعلن فور انتهاء تلك المهلة عن قراره بـ(إلغاء) تلك الضرائب وكما فعل الرئيس ماكرون.. بل وأرفقها بسلسلة من التخفيضات في مرتبات الرؤساء والوزراء وأعضاء المجلس النيابي.. لكن سقف المطالب كان قد أخذ يرتفع يوماً بعد يوم وصولاً إلى مطلب إزالة الطبقة الحاكمة القديمة كلها، التي تتوارث المناصب: (أباً عن جد.. وابنًا عن أب)، وتتقاسم ثروات الوطن بينما تعيش الأغلبية بـ(الكاد)!! إلى جانب محاربة (الفساد) وتقديم رموزه لـ(العدالة).. لترتفع مطالب المتظاهرين بعدها إلى إلغاء (الطائفية) و(المحاصصة) المذهبية..
ليقطع الرئيس سعد الحريري.. الطريق على المتظاهرين - يوم الثلاثاء الماضي - عندما أعلن عن تقديم (استقالته) للرئيس عون.. اعتقادًا منه بأن ذلك سيحل الأزمة، ويفض جموع المتظاهرين في ساحة رياض الصلح.. إلا أن العقلاء في داخل لبنان وخارجه يعلمون بأن (استقالة الحريري) ليست هي الحل، ولكن تعديلاً وزارياً في حكومته قد يسهم في حلها، أما إلغاء (الطائفية) في بلد يقوم على (ثماني عشرة) طائفة.. فهي قضية الأمة والوطن كله، وليس في مقدور الرئيس الحريري ألغاؤها أو إبقاؤها؟!!!
ويبقى الأمل في قبول الرئيس عون لاستقالة الحريري، ثم إعادة تكليفه ليأتي بوزراء يعيشون معاناة أبناء الشعب اللبناني ويعرفون مكابداته في سبيل تأمين الحصول على لقمة العيش اليومية..
لأن مغادرة الحريري النهائية لـ(الوزارة) تضع لبنان كله.. في «مشقة» لا يحتملها، وهي تفتح الأبواب لمرحلة غموض سياسية وطنية على حاضر لبنان ومستقبله: لا يعلم منتهاها إلا الله...!