د.عبدالله مناع
على ضفاف قناة السويس الجديدة احتفلت (مصر) الأسبوع - ما قبل الماضي - بـ(ذكرى) مرور مائة وخمسين عامًا على افتتاح «قناة السويس».. التي بدئ العمل في إقامتها عام 1859م.. وتم الانتهاء عام 1869م. أي بعد عشر سنوات من العمل الشاق والمتواصل، الذي شارك فيه مليون عامل مصري، ذهب ضحيته مائة وعشرون ألف عامل.. ماتوا جوعًا وعطشًا ومرضًا وكمدًا...!!
كان الاحتفال كما تناقلت صورته الإذاعات والفضائيات (حضاريًا).. بعيدًا عن (السياسة) ومنغصاتها!! فقد تصدره رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع، ووزير الآثار المصري الدكتور خالد العناني، وسفير فرنسا لدى مصر (استيفان روماتيه)، وأعضاء مجلس إدارة هيئة قناة السويس، وكبار المرشدين، ورئيس جامعة قناة السويس الدكتور طارق راشد رحمي، ورئيس جمعية (ذكرى فيرديناند ديلسيبس)، ورئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير الدكتور محمد منير زهران، ومحافظ الإسماعيلية.. إلى جانب حشد من النواب والسياسيين والإعلاميين والكتاب ورجالات الصحافة.
* * *
ومع غياب (السياسة) عن هذه الاحتفالية.. كان (التاريخ) حاضرًا.. بكل تفاصيله بدءًا من حملة (نابليون) على مصر عام 1798م، التي ما يزال المؤرخون إلى يومنا هذا حائرين في (توصيفها): بين أن تكون حملة «عسكرية» استعمارية تستهدف احتلال مصر..! أم أنها كانت حملة (ثقافية) تستهدف (اكتشاف مصر) بلد النيل والأهرامات وأبى الهول و(رمسيس) ونيفرتيتي، ومعابد الكرنك و(وادي الملوك) و(حبشتسوت).. فقد كان بقدر ما في (الحملة) من جنود فرنسيين.. كان بها عشرات العشرات من (المثقفين) والمؤرخين والكتاب والرسامين الفرنسيين لـ(وصف) مصر بـ(القلم) و(الريشة) قبل أن يكتشف علم التصوير الفوتوغرافي بـ(الكاميرات) والعدسات، لتلمع في ذهن قائد الحملة «نابليون» آنذاك «فكرة»: إنشاء (قناة السويس)، لتصل البحرين: الأحمر والأبيض ببعضهما بعضًا.. ابتداء من «خليج السويس» جنوبًا على البحر الأحمر.. وصولاً إلى مدينة «بور سعيد» شمالاً على مياه البحر الأبيض المتوسط.. مرورًا بمدينة «الإسماعيلية» على ضفاف القناة.. لكن فكرة «نابليون» لم يقدر لها أن تتحقق آنذاك.!
لكن ما فشل في تحقيقه (نابليون) عام 1798م.. تحقق عام 1854م على يد المهندس الفرنسي العبقري الفذ (فيرديناند ديلسيبس)، الذي استطاع إقناع (الخديوي سعيد باشا) عام 1854م بفكرة حفر القناة.. بل إن يحصل على موافقة الباب العالي - كما كانت تسمى الامبراطورية العثمانية آنذاك - عليها.. فقام الخديوي سعيد باشا بمنح الشركة الفرنسية برئاسة (ديلسيبس): امتياز حفر وتشغيل القناة لمدة (99 عامًا)، ليتم في النهاية افتتاح القناة عام 1869م.. في حفل أسطوري مهيب حضره ملوك ورؤساء الدول الأوروبية.. قاطبة، فقد كان مرور السفن فيها من الجنوب إلى الشمال.. ومن الشمال إلى الجنوب يشكل نقلة نوعية في اختصار المسافات بين جنوب وشرق آسيا - وبين دول أوروبا الغربية ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، فبدلاً من ذهاب السفن القادمة من جنوب وشرق آسيا إلى (رأس الرجاء الصالح)، والدوران حوله وصولاً إلى مياه «الأطلسي» ومنها إلى مضيق «جبل طارق» أو إلى الجزر البريطانية ومدن بحر الشمال، فقد أصبحت تلك السفن القادمة من جنوب وشرق آسيا والمتجهة إلى دول أوروبا الغربية والأمريكيتين.. تتجه رأسًا إلى مضيق (باب المندب) ومنه إلى البحر الأحمر.. للوصول إلى (قناة السويس) ومنها إلى البحر الأبيض المتوسط ودوله ودول الشمال الإفريقي.. مختصرة - بذلك ما يزيد على نصف (المسافة زمنيًا) و(نصف التكاليف ماليًا) عمّا كانت عليه عندما كانت لا تجد أمامها غير مضيق (رأس الرجاء الصالح) للوصول إلى أوروبا الغربية والأمريكيتين.
كان نجاح (قناة السويس) في سنواتها الأولى كاسحًا وعلى كل المستويات العملية والاقتصادية مع توافر عنصري الأمن والسلامة للسفن والركاب والمرشدين، فقد أخذت مئات السفن وآلافها تعبرها من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال.. في سهولة ويسر وفي أوقات قياسية، الأمر الذي أغرى (ملاك الشركة) ورؤوسها من الفرنسيين والبريطانيين بـ(التقدم) للسلطات المصرية في عام 1905م.. بطلب (زيادة) فترة الامتياز الممنوحة للشركة بـ(50 عامًا)..! لكن المسؤولين المصريين لم يستجيبوا لطلب (الشركة)، وبقيت العلاقة بين (الشركة) الفرنسية - البريطانية صاحبة الامتياز في إدارة وتشغيل (قناة السويس).. على ما كانت عليه.. حيث كانت تدفع (الشركة).. للسلطات المصري جزءًا متواضعًا من (الرسوم) التي كانت تتقاضاها من السفن العابرة بـ(قناة السويس).. أما بقية «الرسوم» فقد كانت تذهب إلى ملاك الشركة «الأم» صاحبة الامتياز في إدارة وتشغيل القناة!!
ولكن مع انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م، وانعقاد (مؤتمر السلام) في ضاحية (فرساي) الذهبية في العاصمة الفرنسية (باريس).. على مبادئ الرئيس الأمريكي (ودرو ويلسن) (الأحد عشر) للسلام، التي أعطت حق تقرير المصير للشعوب المستعمَرة آنذاك.. كان هناك متغير تاريخي آخر حقق (الاستقلال) للبنان وإقامة ملكية دستورية في كل من العراق ومصر على التوالي، ليصبح بموجبها زعيم (حزب الوفد) سعد باشا زغلول أول رئيس لوزراء مصر، إلا أن ذلك لم يغير من طبيعة «العلاقة» بين (الشركة) الفرنسية البريطانية والسلطات المصرية الجديدة.. وبقيت الحال على كانت عليه منذ أيام الخديوي سعيد باشا.. إلى أن جاء النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، ومعه الثورات العربية الكبرى الثلاث في كل من مصر والجزائر والعراق، التي تبدلت معها الطبقات الحاكمة في كل من هذه الأوطان العربية الثلاث.. ليأتي الضباط الأحرار لحكم مصر.. فيتحقق الجلاء البريطاني عن مصر في عام 1954م.. بعد استعمارها بريطانيا لأكثر من سبعين سنة ليدعو، الرئيس الإندونيسى (أحمد سوكارلو) لـ(مؤتمر باندونج) في عام 1955م لـ(دول عدم الانحياز) للشرق «الشيوعي» بقيادة الاتحاد السوفييتي أو للغرب (الرأس مالي) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.. الذي شكل في ختامه كتلة سياسية فاعلة من الدول المستعمَرة قديمًا كـ(الهند ومصر وإندونيسيا ويوغوسلافيا) والدول المؤيدة لها كـ(المملكة) التي شاركت في أعمال ذلك المؤتمر بحضور ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فيصل بن عبدالعزيز.. ليقوم قائد الضباط الأحرار والرئيس المصري آنذاك بإصدار قراره التاريخي عام 1956م بـ(تأميم الشركة العالمية لقناة السويس) وتحويلها إلى (شركة مساهمة مصرية)، فترد بريطانيا وفرنسا على قرار التأميم بإعلان (الحرب) على مصر مستخدمة (إسرائيل) كراس حربة للعدوان على مصر الذي عرف فيما بعد بـ(العدوان الثلاثي)، والذي تصدت له مصر عسكريًا ودول عدم الانحياز سياسيًا.. والمملكة في مقدمتهم، لتبقى قناة السويس بعد الانتصار وانسحاب قوى (العدوان) الثلاثي خالصة لمصر بـ(مواردها)..! ليقول أحد قدماء السياسيين المصريين: أما كان خيرًا لمصر أن تتجنب التأميم الذي أدى إلى العدوان عليها..؟ وتنتظر ثلاثة عشر عامًا حتى تنتهي سنوات الامتياز! إلا أن معركة السويس أعطت مصر دورًا محوريًا في تحرير القارة السمراء ودول أمريكا اللاتينية المستعمرة، ليتغير الزمنوالتاريخ بعد ذلك.. إلى أن جاءت ثورة 30 يونيو 2013م على حكم الإخوان.. وجاء الفريق عبد الفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية المصرية، فلم يجد أمامه مشروعًا قوميًا يلتف حوله المصريون أفضل من مشروع (توسعة) قناة السويس، بما يمكنها من تسيير خطين ملاحيين لعبور السفن من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال في (وقت واحد).. ليتم انجراره في عشرة أشهر، وليس في عشر سنوات.!
وهكذا.. أصبحت قناة السويس بـ(تاريخها) ودورها الاقتصادي في حياة العالم، وبـ(إيراداتها) في حياة مصر.. أهم وأبرز العلامات في تاريخ مصر المعاصر.. يستوجب (التهنئة) بمرور مائة وخمسين عامًا على افتتاحها، و(الدعاء) بالرحمة على من ماتوا جوعًا وعطشًا في حفرها.. ومن ماتوا استبسالاً في الدفاع عنها بأرواحهم في كل الحروب التي خاضتها (مصر).