د.عبدالله مناع
الصراع على «السلطة» في (الجزائر).. قديم قدم استقلال الجزائر الذي تم الإعلان عنه في الخامس عشر من شهر يوليه من عام 1962م في بهو مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك.. حيث تم رفعُ العلم الجزائري لأول مرة فوق سارية المبنى العتيد، وعُزف السلام الجمهوري الجزائري وسط أفراح جزائرية وعربية وعالمية غامرة، لتجري بعدها أول انتخابات رئاسية.. فاز بها زعيم الجزائر التاريخي، ونجم نجوم الساسة في مطالع الستينات الماضية: الرئيس أحمد بن بيللا.. لينقلب عليه بعد أقل من ثلاثة أعوام صديقه ورفيق كفاحه ووزير دفاعه العقيد «هوارى بومدين».. فيستولي على (السلطة) هو وأنصاره من أعضاء (جبهة التحرير).. التي تحولت فور الاستقلال إلى حزب سياسي حاكم!! ليستمر (بومدين) في حكم الجزائر حكماً أوتوقراطياً فردياً لأربعة عشر عاماً.. لم تنته إلا بوفاته إلى رحمة الله، ليخلفه مرشحو (جبهة التحرير) القابضة على زمام السلطة.. بداية من (أيت أحمد) فالعقيد (الشاذلي بن جديد)، الذي أجرى في مطلع الثمانيات من القرن الماضي أول انتخابات نيابية.. تمهيداً لنقل السلطة من (جبهة التحرير) إلى (مجلس نيابي) جزائري يدير البلاد، حيث فازت (جبهة الإنقاذ) الإسلامية التوجه بمعظم مقاعد البرلمان بعد دورة إجرائها الأولى.. وهو ما عطل إجراء «دورتها الثانية» عام 1982م، ليدخل الوطن الجزائري في شقاق ومعارك ودماء.. لم يخرج الوطن الجزائري منها إلا بإجراء انتخابات رئاسية ديموقراطية حرة تحت إشراف أممي ففاز بها مرشح (جبهة التحرير) الرئيس أمين زروال، الذي كان بحق محطة العقل والعدل والحكمة بين مرشحي (الجبهة)، فقد دعا الجزائرين جميعاً إلى نسيان الماضي وأزمة انتخابات (جبهة الإنقاذ).. والانخراط في انتخابات حرة ديموقراطية تعددية جديدة أسفرت عن إنشاء أحد عشر حزباً.. فاز سبعة منهم.. ليشكلوا المجلس النيابي الجزائري الجديد بمقاعده البالغ عددها ثلاثمائة وثمانين مقعداً، إلا أن الرئيس أمين زروال قدم استقالته مع انتهاء دورته الرئاسية الثانية، ولم يجدد لدورة رئاسية ثالثة.. لتقوم (جبهة التحرير) بتقديم مرشح جديد للرئاسة لا يُختلف عليه هو (عبد العزيز بوتفليقة): ابن الثورة الجزائرية، ووزير الشباب في أول حكومات الاستقلال التي ترأسها الرئيس أحمد بن بيللا.. وإن أخذ عليه توليه (خارجية) بومدين الذي استولى على (السطلة) بالقوة ولم ينتخب لها، ليتم انتخابه رئيساً للجمهوريةام 1999م، فيدير الوطن الجزائري بخبراته المتراكمة وثقافته القانونية خير إدارة.. ليتم التجديد له وإعادة انتخابه لـ(أربع) دورات رئاسية متصلة.. إلى أن بلغ الواحدة والثمانين من عمره.. وأخذت تتداعي عليه أمراض الشيخوخة ليتعالى الهمس من حوله بين السياسيين ورجالات الأحزاب والإعلاميين حول (مستقبل) الرئاسة الجزائرية؟ في ظل تداعي صحة الرئيس.. حتى ذهب بعضهم إلى القول إنه لن يتم الإعلان عن انتخابات رئاسية جديدة إلى أن يقضى الله أمره!! ليفاجئ الرئيس (بوتفليقة) الجميع بإعلانه الذي رفعه إلى (الهيئة الانتخابية) في التاسع عشر من يناير الماضي.. بأن الانتخابات الرئاسية الجزائرية ستجرى يوم الثامن عشر من أبريل القادم، دون أن يشير إلى رغبته - أو عدم رغبته - في ترشيح نفسه لدورة (خامسة).. إلى أن أعلن أخيراً عن استقالته وعدم رغبته في ترشيح نفسه لدورة رئاسية (خامسة)..!!
وهو ما يعني في ميزان الصراع على السلطة (حزبياً).. أن (حزب جبهة التحرير) حكم الجزائر لسبعة وخمسين عاماً بعد (الاستقلال).. وهو ما يكفي - من وجهه نظر الآخرين المنافسين له - الحزب ورجالاته الذين ما زال بعضهم يتمسك بـ(شرعية الثورة) والتحرير التي قادت البلاد إلى الحرية والاستقلال.
* * *
أما على المستوى (الشخصي) في الصراع على (السلطة).. فقد كان خير مثال له ما حدث بعد أن قدم الرئيس بوتفليقة استقالته.. إذ جرى داخل حزب (جبهة التحرير) تداول أسماء المرشحين المحتملين لـ(خلافة) بوتفليقة.. فكان (أحمد أو يحيى) رئيس وزرائه السابق أبرزهم، وقد شهد بأهليته لتقلد منصب الرئاسة الجزائرية رئيس مجلس النواب الجزائري (عبدالعزيز زيادي) عندما قال: إن («أحمد أو يحيى» يملك جميع المواصفات لخلافة «بوتفليقة»، وهو رجل دولة قادر على (مواجهة التحديات).. إلا أنه لم يتعجل ترشيح نفسه، وهو ما يدل فعلاً على رجاحة عقله وأهليته.. لكن وزير الداخلية «نور الدين البدري» أبدى رأياً معاكساً حول (أحمد أو يحيى) عندما قال عنه بـ(إنه لا يحظى بتوافق الجميع عليه)!! ليتقدم ثلاثة وعشرون مرشحاً من جبهة التحرير و«جبهة الإنقاذ» وبقية الأحزاب التي وُلدت أيام (الرئيس زروال) للانتخابات الرئاسة الجزائرية التي تأجل موعدها الذي أعلنه (بوتفليقة) في الثامن عشر من شهر «أبريل».. إلى شهر سبتمبر.. فإلى شهر أكتوبر.. ليستقر رأي (المجلس الدستوري الجزائري) على موعد الثاني عشر من شهر ديسمبر) من هذا العام.. لأجرائها.
في الوقت ذاته وبعد أن أعلن الرئيس بوتفليقة عن موعدها الأول في أبريل الماضي.. كان الشارع الجزائري يمتلئ مع إطلالة شهر فبراير الماضي بآلاف من المتظاهرين والمحتجين المطالبين بـ(إزالة الطبقة الحاكمة) القديمة - وهم لا يعنون بالتأكيد - إلا طبقة (جبهة التحرير) ورجالاتها الذين حكموا الجزائر لستة عقود، المطالبين بإجراء انتخابات نيابية جديدة ليتولى الحزب الفائز بها تشكيل الحكومة الجزائرية الجديدة.. مؤكدين أن الستة عقود الماضية قد أنجبت أجيالاً من الجزائريين الأكثر علماً ومعرفة من أجيال (جبهة التحرير)، التي ما كانت تسأل الجزائريين عند انضمامهم إليها عن مؤهلاتهم أو تعليمهم! في سنوات الكفاح المسلح - ضد جنرالات الجيش الفرنسي الذين كانوا يؤمنون بأن الجزائر (قطعة) من فرنسا، فالذي كان يهمها (إيمان) المتقدمين للانضمام إليها بـ(الكفاح المسلح) لإخراج أولئك الجنرالات وجنودهم من (الجزائر).. لتعود الجزائر لأبنائها الجزائريين، ولذلك فقد تقدم إلى (جبهة التحرير) آنذاك.. عشرات الآلاف من الجزائريين الأحرار.. حتى أصبحت الجزائر آنذاك وكأنها كلها (جبهة تحرير).. ولكن تلك المرحلة الساطعة من حياة الجزائر والجزائريين انتهت بـ(النصر) وإعلان.. (الاستقلال) في شهر يوليه من عام 1962م.
* * *
وقد ضاعف من تعقيدات هذه الانتخابات الرئاسية لخلافة الرئيس (بوتفليقة).. المؤجلة لأكثر من مرة، والمحتمل إجراؤها في الثاني عشر من شهر ديسمبر المقبل: (البيان) الذي أصدره (المجلس الدستوري الجزائري) في التاسع من شهر نوفمبر الجاري، وأعلن فيه قبول (خمسة مرشحين) فقط!! من الثلاثة والعشرين الذين قدموا ملفاتهم لخوضها، وأن (تسعة) من الذين رفضت ملفاتهم تقدموا بـ(طعون) ضد رفض ملفاتهم.. كان مصيرها الرفض من قبل (المجلس الدستوري الجزائري)!! وهو ما يعني أن أمام الجزائريين في هذه الانتخابات الرئاسية المحتمل إجراؤها في ديسمبر المقبل: خمسة مرشحين.. من بينهم مرشحان شغلا منصب رئاسة الحكومة الجزائرية في عهد الرئيس بوتفليقة، وثالث عمل وزيراً في إحدى حكومات بوتفليقة.. ليشتعل الحراك المعارض في الشارع الجزائري.. ويعلن رفضه لإجراء الانتخابات.. داعياً إلى إقامة (مؤسسات انتقالية) قبل ذلك...!!
فهل ستجري انتخابات (ديسمبر) كما قرر (المجلس الدستوري).. وبأي نسبة حضور مهما تضاءلت أعدادها من الجزائريين...؟ أم تؤجل إلى أن يتم التوافق مع حراك المتظاهرين والمحتجين الذين يملؤون شوارع المدن الجزائرية...؟
إنها «أسئلة».. لا يجيب عليها إلا إطلالة صباح يوم الثاني عشر من ديسمبر!؟