د.عبدالله مناع
رغم أنه لم يكن (حزبياً).. ينتمي إلى أي من الأحزاب السياسية التونسية التي دفعت بأربعة وعشرين مرشحاً من أعضائها.. إلى حلبة السباق الرئاسية التونسية الثانية.. بل ولم يكن -حتى- عضو فيما عُرف بعد الثورة بتجمع (نداء تونس)!! الذي أقامه الرئيس -السلف-: باجي قائد السيبسي.. من بعض الأحزاب والقيادات السياسية التونسية المشهود لها بوطنيتها وإخلاصها وأيمانها بـ(استقرار ورخاء) تونس فوق وكل اعتبار وأي اعتبار.. وفاز فيه برئاسة تونس (الأولى) بعد ثورة عام 2011م.. التي انطلقت في أعقاب حرق الشهيد (بوعزيز) لنفسه.. ليسقط الرئيس الأسبق (زين العابدين بن علي)، الذي استولى على (السلطة).. بحكم تواجده في عهد آخر وزارات (بورقية) كـ(وزير للداخلية) في أعقاب اعتلال صحة زعيم الاستقلال التونسي عام 1956م، وبطله وأول رؤساء الجمهوريات التونسية.. الرئيس أو المجاهد الأكبر كما يسميه التوانسة: الحبيب بورقيبة.
ورغم أن (قيس بن سعيد) لم ينفق على (حملته) الانتخابية التي أطلقها من شقة متواضعة مستأجرة بشارع «ابن خلدون» في العاصمة التونسية.. ذلك (الإنفاق) الذي يدير الرؤوس، ويبدل الولاءات، ويجيش الأنصار والمؤيدين لـ(انتخابه)..
مع هذا كله.. مع غياب «الحزب» الذي يدعمه ويروج لـ(انتخابه)، ومع تواضع تمويل حملته الانتخابية أمام منافسه: رجل الأعمال الأكثر شباباً مقارنة به، والأقدر تمويلاً لحملته الانتخابية.. إلا أنه فاز وفي الجولة الأولى من تلك الانتخابات التي جرت في منتصف شهر سبتمبر الماضي.. فوزاً كاسحاً تخطى به نسبة الأغلبية المتعارف عليها -أي الواحد والخمسين بالمئة- بما يزيد عن 20 % من أصوات الناخبين والناخبات، الذين ذكرت المصادر التونسية الرسمية بأنهم: سبعة ملايين ناخب وناخبة!!، الأمر الذي أصاب الأوساط السياسية بما يشبه الدوار أو الزلزال في البحث والتنقيب عن أسباب ذلك الفوز الكاسح؟! الذي تكرر في الجولة الثانية من هذه الانتخابات التي جرت بأعلى درجات النزاهة الشفافية وانتهت.. بـ(فوز) الأستاذ قيس بن سعيد.. ليكون الرئيس الرابع للجمهورية التونسية، وصاحب (مشهد الختام) لـ(ربيع الحرية) العربي الذي انطلق من تونس مع استشهاد (بوعزيز) في عام 2010م، لتنطلق معه ثورة الإطاحة بـ(زين العابدين بن على) عام 2011م.
* * *
فمن هو هذا السياسي التونسي «المستقل» وغير المعروف خارج تونس؟.. الذي فاجأ الأوساط السياسية على مستوى العالم بهذا الإنجاز أو الإنجاز الانتخابي غير المسبوق.. بحصوله على أكثر من (72 %) من أصوات الناخبين والناخبات التوانسة في الجولة الأولى؟! وما هي «التعويذة» التي سحر بها هذه الجموع الغفيرة من التوانسة التي تزيد عن خمسة ملايين تونسي وتونسية لـ(انتخابه) ليكون الرئيس الرابع للجمهورية التونسية بعد «بورقيبة» و»ابن على» و»السيبسى»..؟.
فهو ابن من أبناء الطبقة المتوسطة، وقد ولد بالعاصمة التونسية «تونس» بعد الاستقلال في فبراير من عام 1958م، وتلقى تعليمه الجامعي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم حصل فيما بعد على (دبلوم) الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وعلى (دبلوم) المعهد الدولي للقانون الإنساني من جامعة (سان ريمو) الإيطالية.. ليبدأ حياته العملية عام 1986م مدرساً بـ(كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) بجامعة بمدينة سوسة الساحلية التونسية.. لينتقل بعدها في عام 1999م إلى العاصمة التونسية (تونس) للتدريس في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بجامعتها.
وإذ كانت حياته الوظيفية الأكاديمية في معظمها.. قد خلت من تلك المناصب الرفيعة كـ(الوزارة) عند العامة مثلاً.. إلا أنه تقلد بين عامي 1989 و1990م منصباً نوعياً هاماً على المستوى العربي.. عندما تم تعينه (مقرراً) لـ(اللجنتين) الخاصتين بـ(تعديل ميثاق الجامعة العربية)، وإعداد مشروع النظام الأساسي لـ(محكمة العدل العربية).. خلال الإقامة المؤقتة لـ(أمانة الجامعة العربية في تونس)، يضاف إلى ذلك حصوله في عام 1997م على عضوية المجلس العلمي، وعلى (عضوية مجلس إدارة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري)، ليصبح بعدهما رئيساً لـ(مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديموقراطية)، وهو مركز (مستقل) لا تتولى الحكومة التونسية الإنفاق عليه.
***
ولكن هذه السيرة الوظيفية والأكاديمية للرئيس قيس بن سعيد.. تقدم صورة لامية براقة لـ(أكاديمي) متميز ولـ(فقيه) دستوري من الندرة.. إلا أنها لا تقترب كثيراً من «التعويذة» التي خاض بها الرئيس (قيس بن سعيد) الجولة الأولى من انتخابه.. وأعطته أكثر من (72 %) من أصوات الناخبين التوانسة، ولكن تلك (التعويذة).. كشف عنها أحد الذين عملوا إلى جواره في حملته الانتخابية.. عندما قال: (نحن تعلمنا من قيس بن سعيد «العفة»! ونكران الذات؟ لقد تعلمنا الكثير من «الأستاذ».. فكل يوم معه كنا تتعلم فيه).
فإذا كانت (العفة) و(نكران الذات) تمثلان (أخلاقه) التي فطر وتربى عليها.. وبثها بين أبنائه الطلبة في جامعتي (سوسة) و(تونس).. فقد ضاعف من قيمتهما عند العامة.. تلك المشاهد التلفزيونية المثيرة -التي ثبتها تلفزيونات العالم أجمع- لـ(خزائن) الرئيس زين العابدين بن على!! ولـ(سبائك الذهب) المتراصة فيها، و(رزم الدولارات) التي طفحت بها (خزائن) بن على وحيرت (التوانسة) في أمرها..؟؛ إلا أن ذلك كله على قيمته وأهميته لم يكن وحده كافياً لصناعة تلك «التعويذة» التي سحرت التوانسة وجعلت أكثر من (سبعين %) منهم يعطون أصواتهم لهذا الأكاديمي غير المعروف خارج تونس، ولكن كان إلى جانبها.. مناهضته الشرسة لنظام (بن على)، وتأييده المطلق لثورة 2011م التي أطاحت به!!
فكل ذلك معاً هو الذي صنع تلك «التعويذة» الساحرة.
***
أما الآن.. وقد أدى الرئيس قيس بن سعيد اليمين الدستورية صباح يوم الأربعاء الماضي وسط بهجة التوانسة، وأفراحهم الغامرة بوصوله إلى (قصر قرطاج)، الذي قال عنه في إحدى المقابلات التلفزيونية بأنه سيكون مقرًا لـ(عمله) لا لسكناه!.. فإنه و(تونس) يحتاجان إلى رجال مثله في عفته ونكرانه لذاته.. ليعينوه على استكمال ما بدأته ثورة 2011م في بناء جمهورية الحرية والكرامة والعدل والمساواة لشعب.. نبيل عظيم يستحقها.