علي الخزيم
الكلمات كالبذور، تُغرس بالقلوب فتُورِق وتزهر حباً ووئاماً، وأمناً وطمأنينة بين الأفراد والأسر، وسائر طبقات المجتمع، بل إن الكلمات الدبلوماسية المتأنية المتعقلة هي روابط طيبة بين الدول والشعوب قد تحقق ما لا تحققه المؤتمرات والحوارات المتنافرة.
وحقيق على المرء أن يحترس مما يقول بين الجلساء والزملاء، لاسيما من لا يجزم بأنه سيتقبَّل كل ما يورده ويُحسن تأويله، كما بين الغرباء ومن يجالسهم لأول مرة وإن كانوا من المعارف لأنه لا يدرك موازين عقولهم ومدى مسافات أحلامهم واتساع أفئدتهم لمثل هذه الطوارئ الكلامية بالمجالس، فحين ذاك دقق بما تزرع بقلوبهم من الكلام، وتريَّث فيما تقول وأحسن المحاورة؛ فقد تضطرك الأيام لأكل ما زرعته، واعلم -رعاك الله- بأن القوة لا تكمن دوماً بما نتفَوَّه به، فأحياناً تكون بالتزام الصمت وما أجمله بمكانه، كما أنه من غير الصواب الحكم على الآخرين من فحوى حديثهم؛ فهناك من يرون أنهم مثاليون حين يتكلمون، فهم أشجع الفرسان بعيداً عن ساحة الطعان، وهم أنزه الناس إلا حين يلوح لهم المال وفتنة النساء وشهوة تسلط المنصب الإداري والعياذ بالله! ومن الأخطاء التي قد نقع بها الاستعجال بالحكم على الجلساء الجدد، انتظر والتمس الجوانب الخيِّرة بنفوس الآخرين وما أكثرهم، فقط أحسن الظن وانظر بمنظار أبيض وقلب نقي، وستكتشف بالناس خيراً كثيراً، وستبادلك الأكثرية المشاعر ذاتها، وأقلية ستجد منهم انتهازية لطيبتك واستغلالاً لتسامحك واستهجاناً للطفك، لا عليك فالعقلاء يعرفون أن نقاء القلب ليس عيباً، والتغافل ليس غباءً، والتسامح ليس ضعفاً.
(ونِيّاتُ أهلِ الصّدقِ بِيضٌ نَقِيّةٌ
وألسُنُ أهلِ الصّدْقِ لا تَتَلَجْلَجُ).
وقرأت لمتخصص قوله: ليكن فكرك أكثر تهذيباً من شكلك، ومشاعرك أزكى طيباً وشذىً من عطرك، وأخلاقك أكثر جاذبية من ملامحك، فهنا يكمن سر أناقتك وجاذبيتك.
وقالت العرب: يُعرف المرء من رسالته ومرسوله (سفيره) وهديته وحديثه، فلا تُغْفِلَن الأخيرة بمجالستك للرجال، وسُئل حكيم عربي: ما أطيب الفاكهة عندك؟ فأجاب: (محادثة الفصحاء العقلاء من الرجال)! ومع كل ذلك تيقن أن من الناس من لن يقبلك مهما كان واقعك؛ ولن يرضى عنك مهما فعلت، وتقول العرب أيضاً وما أبلغ قولهم:
(فليس كل من تهواه يهواك قلبه
وليس كل من صافيته لك قد صفا).
وثَمَّت مقولة منسوبة للمرحوم -بإذن الله- الشيخ على الطنطاوي: (إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا وأحلى أفراح القلوب؛ فجودوا بالحب والعواطف كالجود بالمال)، ثم اعلم يقيناً بأن حولك من يظن أن محاسنه لا تظهر للناس إلَّا بكشف أخطائك (إن وجدت)، غير أن العقلاء يدركون أن فضائل الآخرين لا تمنع بروز فضائلهم، أو كما قال المثل العربي: ضياء الشمس لا يلزمه مغيب القمر! ومن العجائب أن أناساً حينما يحاولون الوصول لما وصل إليه آخرون ويفشلون بذلك؛ تحرقهم نار الغيرة والحسد تجاه الناجحين، فيقاتلون لتشويه سمعتهم بدلاً من تَفَهُّم أن القمم تتسع للجميع، ومجالات التفوق متعددة، وأبواب الرزق مُشْرعة للجميع.