فوزية الجار الله
منذ ساعات، في هذا اليوم، في تلك اللحظة التي أكتب لكم فيها هذه السطور عشت أجواء رائعة غريبة في الوقت ذاته، لعلي عشت مثلها قديماً أو حديثاً، واقعاً أو تخيلاً، لكن هذه التجربة بدت لي مختلفة، بدت لي مشابهة لإحساس المتنبي في بيته الشهير:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهلُ
وأيضاً لإحساس امرؤ القيس في مطلع معلقته:
قفا نبكَ من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
هذه اللحظة التي عشتها والتي قد لا تخصني مباشرة لكنها تخص تاريخ الإنسان عامة، الطقس رائع والسماء تحتفل بأنفاس النهار، وخيوط الشمس تتلمس الطريق نحو غيمة هاربة هنا أو هناك، ثمة بقايا أعمدة ضخمة بدا واضحاً أن ثمة أعمالاً تجري لإحيائها ونفض غبار النسيان عنها، تماماً كما يتم تجميع الفسيفساء الصغيرة واحدة فواحدة لأجل الحصول على الصورة الطبيعية الأولى، أرى صخوراً متناثرة، وأخرى تعلوها زخارف جميلة محفورة بعناية على الأعمدة الحجرية، تبدو آثار مذهلة خلفها حضارة عظيمة، ثمة أناس عاشوا هنا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. وهذه بقاياهم، حيث توقفت وتأملت، هنا على هذا الجزء من مدينة «أنطاليا» الواقعة في جنوب غربي تركيا، على ساحل البحر المتوسط.. أصابني شيء من بهاء الكاتب الروائي اليوناني «لورانس داريل» في روايته رباعية الإسكندرية وهو يقول (وأصابني شيء من الشجن لمجرد شعوري أني أسير على ساحل البحر المتوسط)..
ثمة آثار متناثرة بمحاذاة الشاطئ، تشير الكتابات التوثيقية حولها بأنها قد أنشئت في القرن السادس قبل الميلاد، هنا بقايا قصور ومنازل ومشفى شهد أهات وأنين المرضى وجرحى الحروب المتوالية وأيضاً هناك.. ياللجمال، بقايا مسرح روماني..
في عام 2016م أصدر روجيه عساف (الكاتب والمخرج المسرحي) موسوعة بالفرنسية - كما قرأت - تنطلق من المسرح الإغريقي وتعرج على روما ثم تنتقل إلى المسرح في آسيا، الهند، العالم العربي، الصين، اليابان.. يقول روجيه في الصفحة الأخيرة من الغلاف (ذات يوم اكتشفت بأن المسرح هو الوجه الخفي للتاريخ، عندها وعلى خشبة المسرح تسكنه الكلمات والأجساد، شاهدت القرون تخلع ملابسها وتزيل المساحيق عن وجهها فأصبحت الممالك والمعارك والفتوحات والهزائم والسلالات والأوابد وكل ما كان يتبختر في حفل استعراض الحضارات، أصبح لحمة دراما غير تاريخية، دراما رجال ونساء يتألمون ويحبون ويحلمون ويأملون وييأسون..)..
إذاً ثمة أناس عاشوا قبلنا، أحاول عبر مخيلتي استدعاء ملامحهم، أصواتهم، أسماءهم، ملوكهم، أمراءهم، فرسانهم، جميلاتهم، أسيادهم وعبيدهم، نعم ثمة أناس سبقونا بعصور سحيقة، جمعتهم قبائل ومدن وحضارات، وحدتهم أديان وعبادات، أفكاراً وأحاسيس ومشاعر وأيضاً قصص حب، و.. فرقتهم أطماع وغرائز ومشاعر سلبية ما بين رغبة في الاستبداد والسيطرة ورغبة في النجاح والتفوق ونفي الآخر، وفي النهاية غابوا جميعاً وبقيت آثارهم.
**منعطف:
حين تجتاحني الكتابة قبل النوم، يتحول سريري إلى غيمة.