أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أنهيتُ بحمد الله تَواصُلِي مع أصداءِ حفلِ النادي الأدبيِّ بالدمام، وتَرَكْتُ ما هو مُسَجَّلٌ في قنواتِ التواصُلِ الإعْلامِّي مُهْتَبِلاً في غيرِ إطالةٍ ولا إمْلالٍ الحديثَ عن شيىءٍ مِن فلسفة الزمانِ؛ وهي مُعْضَلَةٌ جداً.. على أنَّ الزمان في اللغة العربية وعُرْفِ الناس بلغاتهم ليس شيئاً وجودياً؛ وإنما هو علاقة بين شيئين مثلِ الرقم 1 و2 و3... إلخ؛ فإذا تحقَّقَتْ العلاقةُ أصبحَ الرقمُ صفةً للشيءِ، فالرقم 2 ليس شيئاً إلا إذا وُجِد شيئان يكون الاثنان صفةً لهما؛ وأنت تُمَيِّزُ بينهما بعلاقة تقدُّمِ الواحد على الاثنين مثلِ (قَبْل) و(بَعْد)؛ فلا معنى لاثنين إلا بوجود واحدٍ قبلَه في الوجود، أو الرتبة، أو الجهة من اليمين؛ فالشيئُ الوجوديُّ هو الذي يكون الزمانُ ظرْفاً له، والْمَعدودُ موجوداتٌ مُعَيَّنة تُحْصِيها بالعددِ؛ ولا معنى لثلاثة إلا بعد اثنين.. وما لا وجود لآخرَ معه بإطلاق، أو في مكان ما، أو في وقت ما يرتبط معه بعلاقة القبل والبعد وجوداً أو رتبة.. إلخ: فصفته أنه واحد.. وشرط العلاقة المذكورة وِحْدةٌ جامعةٌ كالتمرة لأشخاص التمر، والثوبِ الذي صفتُه كيت وكيت لأشخاصٍ الثياب بتلك الصفات؛ وهكذا موجوداتٌ مختلفة متفرّقة بصفتها أعياناً تُحْصى؛ وإذْ اتضح أنَّ الزمانَ علاقةٌ: فإنَّ له خصوصيةً غيرَ الأرقام مثلاً؛ لعلاقتها بالْمَعدود؛ لأن تَصَوُّرَ زمنٍ سرمديِّ لا مظروفَ فيه: نِسْبِيٌّ لا مطلقٌ بالنسبة لشيءٍ معين في حينٍ معيَّن.. والله سبحانه وتعالى محصٍ كلَّ زمن سرمدي في عُرْفِ البشرِ؛ لأنَّه سبحانه وتعالى قبل الزمن، ولا عدمَ ولا سرمد قبله جلّ جلاله؛ وليس عند الله عَدَمٌ ولا سَرْمَدٌ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الأوَّلُ، وهو خالِقُ الزَّمانِ وضوابِطِه؛ ومِن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا الدهر فإنَّ الله هو الدهر».. وليس الدهرُ من أسماء الله الحسنى؛ وإنما هو من أفْعالِه ؛ لأنَّه الْمُحْصِي آمادَ الدهر، ومُقَدِّرُ تَصَرُّفاتهِ، الآذنُ بها؛ فلا موجودَ في كونِ الله إلا بإذن الله.. وهذا الحديثُ الشَّرِيفُ من المجاز الذي يُكابر فيه بعضُ القوم؛ والمَعنى أنَّ الله هو محصي الدهر، وهو الْمُقدِّرُ الْمُوجِدُ أَحْدَاثَه التي تقع فيه.. والزمان تصوُّرٌ حتمي ضروري لتوالي سكونٍ وسكون، أو لتوالي حركة وحركة، أو لتوالي سكون وحركة، أو لتوالي حركة وسكون.. وكلُّ هذه المُتولياتِ لا يتصوَّرها العقلُ إلا بعلاقة أوَّلٍ وثانٍ وثالث، وسابقٍ ولاحق.. حتى التواليات التي تكون دَفَعةً واحدة بلا تفاوت بينها في علاقة أو سابق: لابد أنْ تكون سابقةً أو تالية لمتواليات قبلها أو بعدها؛ وبهذا يكون الزمان قسمين: قسم سرمدي، وزمن مُقَدَّر؛ فالزمل السرمدي قسمان: زمَن سرمدي ساكن ليس ظرْفاً لشيءٍ؛ لأنَّ ظرْفه عدمٌ محض؛ فلا قياس له إلا بزمن يتلوه مظروفٌ حركيٌّ؛ فَتُقَدَّر آماد السكون بآماد الحرَكة.. هذه هي الصورة التي لا يتصوَّر العقلُ غيرَها إذا لم يصل إلى علمه زمنٌ حركي؛ ولكنْ صحَّ بالبرهان أنه لا أوَّلَ لمَخلوقات الله إلا بِسبْقِ وجوده سبحانه على صفة الكمال المطلق، والتنزُّهِ المطلق عن كلِّ نقص وعيب؛ لأنه جل جلاله غيرُ معطَّلٍ عن الخلق والتدبير لحظة (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [سورة الرحمن/ 29].. وصح بالبرهان أنَّ الله الأولُ لا شيئَ قبله؛ فهو المُحصي زماناً سرمدياً لو وُجد.. والقسم الآخر زمنٌ سرمدي حركي قابلٌ الضبطَ بحرَكات جرمٍ يُحصى عَدُّه.. إلا أنَّ البشرَ لا يعلمون ذلك؛ فالسرمدي حركة وسكوناً لا نهائيُّ البداية، مجهولُ المقدار، وهو فطرةٌ عقلية لتصور اللاتناهي بداية ونهاية؛ وذلك هو الزمان السرمدي؛ فالإيمان بما لا قبله (وهو الرب جل جلاله)، وما لا بعده (وهو ربُّنا سبحانه وتعالى): هو عقيدة المؤمنين والعقلاء؛ لأنَّ تدبير ربنا لا نهائي (غير نهائي)؛ لأنه حيٌّ دائم قيوُّم باقٍ فعَّال لما يريد؛ فكلُّ هذا فطرةٌ عقليةٌ برهانيةٌ.. والقسم الثاني من أقسام الزمان هو الزمان المقدَّر بحركات أجرامٍ مضبوطةِ القياس والبداية والنهاية كطلوع الشمس وغروبها، وهو محدَّد المقادير.. كلُّ مقدارٍ معروفٌ اسمه في لغات البشر، والله سبحانه وتعالى لم يسبقه عدم ولا سكون.. وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.