أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كان الْمُنتَدُون يُلحُّوْن عليَّ أنْ أَتَحَدَّث عن بعضِ صَبَواتي في سِنِيِّ الْمَيْعَةِ عندما كنتُ مُوَظَّفاً بالديوانِ الأميري بالدمام في مكتب صاحب السمو الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي قدس الله روحه ونوَّر ضريحه منذ شهر صفر عام1381هـ عندما كنتُ أَقْضِي إجازةَ الأسبوع من يومِ كلِّ خميس ليلة الجمعة بـ (حيُّ المنيرةِ) بالظهران؛ لأتابع أغاني الستِّ، وبعضَ الخُطبِ بمشاهَدَةِ السينما قبل وجودِ التِّلْفاز في بلادنا؛ وكان ابتداءُ ذلك بسماعِ ومشاهدة (أنتَ عُمْرِي)؛ وهو ابتداءُ الانسجامِ مَع الدَّفْلَجَةِ الغنائية إلى حدود عام 1404هـ؛ إذْ تداركَني ربي بَرَحْمَته؛ فكانتْ لذَّتي بسماعِ القرآن الكريم بترتيل القُرَّاءِ ذوي الترتيل بتجويد؛ وكان أحَبُّهم إليَّ يَوْمَها (محمد رِفْعَتْ) رحمه الله تعالى، ولا أزال أَحِنُّ إلى تلاوتِه بين الفَيْنة والفينة؛ ولكنني لا أُطِيْلُ التَّواصُلَ مع قراآتِه في الحفلات التي يُبالغُ فيها في الْمَدِّ بما يتجاوزُ ستَّ حركاتٍ بأصبع اليد رفعاً وخفْضاً كثيراً كثيراً كثيراً؛ ويتجلّى في كلِّ ذلك الْمَدِّ الْغِناءُ لا التَّغَنِّي وَفْقَ الْمَقاماتِ العراقية، وقد كره ذلك، وكَرِهَ سماعَه كلٌّ من الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وغيرهم؛ وأنكروا إسرافَ الكسائي في الْمَدِّ على الرُّغْمِ مِن أنَّ قراءتَه من القراآت السبع، وهو من أئِمَةِ الْقُرَّأء رحمهم الله جميعاً؛ وغاية ما في الأمْرِ أنني أَحِنُّ إلى تلك القراآتِ بين الفينة والفينة ولا أَسْتَرسِلُ، ولا سيما أنَّ إطالَةَ الْمَدِّ يَنْتُجُ عنه مقاماتٌ عراقِيةٌ عن غير قَصْدٍ كما نَسْمَعُ في أذانِ عبدالعزيز ابن ماجد رحمه الله تعالى؛ فهو على الفطرة، ولا علم له بالمقامات العراقِيَّة؛ وإنما كانتْ الْمقاماتُ تأتي عفْواً من جَرَّاء إطالةِ الْمَدِّ والتمَوُّجِ به عُلُوّْاً ونزولاً؛ ولعل ما في قراءةِ الكسائي رحمه الله تعالى من التَّغَنِّي المشروعِ، وقد وصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قراءة أَحَدِ الصحابَةِ رضي الله عنهم أجمعين بأنه كمَن أوتي مِزماراً من مزاميرِ آل داودَ (عليهما وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامُه وبركاته).
قال أبو عبدالرحمن: في كُتَيِّبِي (الحباءُ مِن الْعَيْبَةِ غِبَّ زيارتي لطيبة) شيئٌ من أصداءِ المقامات؛ فقد قلت ص 17: ((والغزلُ الحجازي له دَلُّه بشهادةِ كُتَّاب الْمُحاضرات والْمُختارات؛ ولكنَّ الْمَدَنِيّْيْن بينهم كانوا أحسَّ بِمَفاتِنِ الجمال في الفن والطبيعة مَعاً؛ بل كنتُ أجدُ رَوْحَ ورائحةَ المقامات التي رُبَّما كانَتْ في مصادفات بعض التلاوات.. ولقد عادوني منسيُّ الهوى، وكان صوت البلبلِ المغرِّد السيد (حسين هاشم إدريس هاشم) رحمه الله تعالى وابنيه طريفٍ وطلالٍ مَحْضَ الْمُصادفة لِزمنِ توثُّبي الفني؛ وعاد يتألَّق في أُذُني أصداءُ ما كدتُ أنساه من أنغام الْمَقامات الرئيسة السبعة التي يجمعها كلمتا: (بحمر دسج)؛ وهي أناشيد منغَّمَة بغير آلات وترٍ أو موسيقى، وحظيتُ من طريف حفظه الله بصورة سِفْرٍ خطِّيٍ نفيس من تركة والده يتضمن قصائدَ بعضُها يثِب بالقلوب، وبعضها عظيم الخطر تاريخيَّاً؛ لأن فيه قصائد لِمَعاصرين نسوا ذلك الشعر، ولا يكاد يخطر ببالِهم أنهم قالوه كزجليات للشاعر الصديق محمد هاشم رشيد رحمه الله تعالى، وكذلك الأستاذ عبدالفتَّاح أبو مدين ما ظننتُ أنه شاعر؛ ولكنني وجدتُ له في كراسة السيد حسين هاشم رحمه الله أنشودة مليحة.. وسمعت من تغريد حسين ابتداء بالسيكا وانتهاء بالرصد:
دع طرق الْغَيّْ
فالدنيا فيّْ
الكلُّ يفنَى
والباقي حَيّْ
وأحياناً يجاوبه الْمُنشدون بنغمةٍ من الخيشوم بكسر حاء (حِيّْ)؛ والصواب فتح الحاء؛ ولكنه دلالٌ مدنيٌّ يقتضيه الفن؛ ليأخذ بتلابيب القلوب.. وفي تنغيم المنشد:
والله ما في هذا الوجود
إلا مشيراً للمعبودْ
قال أبو عبدالرحمن: هذا التفات لقول الشاعر:
له في كلِّ شيءٍ آية
تدِلُّ على أنه واحدُ
وفي تنغيم المنشد:
يا ويح قلبي ما استتابْ
مِمَّا جنت يد الشباب
يا خجلتي يوم الحساب
من ناقدٍ يُحْصِي عليّْ
صلِّ وسلِّمْ يا سلامْ
على النبي ما حِي الظلامْ
والآلِ والصحبِ الكرامْ
ما حَنَّ مشتاق لِمَيّْ
وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء تعالى، والله المستعان.