أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ما أكثرَ جهابذةَ الإتقان لِلُغةِ الفكر العالمي: إما عن تخصُّصٍ في اللغة الثانية دون تخصُّصٍ في المادة العلمية أو الثقافية التي تؤديها اللغة الثانية؛ فهؤلاء جهابذةُ احتواءٍ بترجمةٍ حرفية لا غيرُ.. وإما عن تخصُّصٍ في اللغة الثانية، وعن تخصصٍ في المادة التي تؤدِّيها؛ فهذا إتقان يُوَصِّل إلى دلالة النص الأجنبي على المادة العلمية أو الثقافية كما هي في الأصل الأجنبي، ولكنَّ فكْرَ النص مشكلةٌ ثالثة يجعل جهابذةَ النقل في أُحْبُولةِ التضليل من قِبلِ مَن يستعمل النص الأجنبي الدالِّ على المراد منه حقيقةً (مِن مادة علمية أو ثقافية) وهو لا يعني ما يقول؛ بل يَلْحَنُ إلى أمر آخر عكسي، وأضرب المثالَ لذلك بكتيِّب (مشروع للسلام الدائم) للفيلسوف الألماني (أَمَّانوئيل كانط)، ولي به عناية في معالجة مستقلة، فقد اتَّـخذ الجهابذةُ هذا العنوانَ - بحرية سلوكية، لا بضرورة فكرية علمية - مبدأً للقانون الدولي المُراوِ غ يكفل حريةَ المستضعفين، ويُـحَقِّق لهم سلاماً دائماً؛ ولكنَّ (كانطَ) أدخل الجهابذة في أُحْبُولة الاحتواء؛ فأجهدوا أنفسهم في الاستدلال على أنَّ (كانط) لا يعني النظريةَ الخيالية كما في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي؛ وهذا حق، ثم تَعِبوا في إقناع أنفسهم بأنَّ (كانط) ذو منقبة سلوكية كريمة؛ لأنَّ مشروعه للسلام الدائم ضِدُّ الظلم، وأنَّ هذا المشروعَ الكريمَ هو الهمُّ الكبير لثورة فرنسا؛ وهي ثورةٌ على كلِّ شيءٍ إلا على الهمِّ الصهيوني المتمثِّل في: دولة عالمية واحدة تستقرُّ بعد بطشٍ لا مثيل له بالآخرَ، مع إهدار الحقوقِ والمعاهدات وما يسمونه (الاعترافُ بالآخَر)، ويُشرعُ معه التسابقُ على أسلحة الدمار، وعلى نشر فسادِ البيئة في البر والبحر والجوِّ، وعلى استباحة الغِش والتضليل.. وَمَهَّدُوا للدولة العالمية الواحدة التي ستكون في زعمهم بدولة عالمية واحدة بتمهيدِ فكري لما يزعمون أنه سيكون حقيقة؛ وهي دولة عالمية تستبعد وتُلغي خصائصَ كل أمة؛ فلا يوجد غيرُ (مجملُ الديمقراطية) الذي يرضَى من الحياة بضمان لقمة العيش، وفتحِ أبواب الإباحية إنْ أراد ذلك.. وإنما يَلْحَنُ (كانط) إلى مذهب (اليعقوبية)، أو (الداوودية) التي تتوعَّد العالمَ كلَّ العالم بالدمار واستعْباد البقية الباقية؛ وهو مذهب يُعَدُّ جريمةً يُحاكَم عليها شرعاً وقانوناً عند ذوي الكتاب الآخر قبل سقوط الكاثولوكية والأرثوذكسيةوقبل هيمنة الكالْفُنِيَّةِ واللوثرية التي جعلت الآخَرين سَبْتِيّْيِنْ بعد أن كانوا أحديّْيِيّْنْ.. ولو فحص الجهابذةُ فلسفة (كانط) لما وقعوا في أُحْبُولة الاحتواء: أعني الفلسفة النقدية الإلحادية في عمومها، ثم كتابه عن الميتافيزيقيا.. ثم في معالجتِه مداركَ العقل في العقل المحض، والعقل العملي، وملكة الحكم، ثم المقالاتِ التمهيدية المراوِغة التي جَعَلَ خلاصَتَها (المشروعُ الدائمُ للسلام).. والواقع أنَّ هذا المشروع: إما خيالٌ محض، وإما عدوان مستقبليُّ مُبَيَّتٌ كما في المكيافِّيلية، وإما حِفْظُ توازن بين الأقوياء المتنفِّذين؛ والمنطقُ في النهاية للقوة، والمُستضعفُ في النهاية هو الضحية.. ولا يُعهد في تاريخ الفكر البشري، ولا في تاريخ الأديان: أنَّ هناك سلاماً وَضْعِيّْاً بسلوك حُرٍّ يضمن للبشر حياة آمنة؛ وإنما المأثور في تاريخ الفكر البشري وفي تاريخ الأديان: التعاهدُ على المنع من الظلم، ووجوبُ أداء الحقوق، وممارسةُ الأقليات الاستمتاعَ بحقوقها كاملة ما لم يكن اعتداءً على حرية الجمهور.. وهذا التعاهدُ لم يقم على الأماني، بل يقوم على اهتمامِ كلِّ أمة بإعداد قوةٍ تدفع بها عن نفسها.. وأما في تاريخ الأديان، فالأديان الثلاثة مُتَّفِقَة على أنَ عمارةَ الإنسان الأرضَ مشروطةٌ بتنظيم شرعِ الله سلوكَ خَلْق الله، وأن سبيل السلام إذا اختلف أهل الأديان (؛ وهم لن يختلفوا إلا عن هوى وحَمِيَّة).. إنَّه فَتْحُ باب الدعوة بالحجة والبرهان؛ وهذا موضوع مُمْتِعٌ خطيرٌ في آن واحد، وسَأَتَـحيَّفُ جُزْئيّْاتِه على المدى إنْ شاء الله باستيعاب وتدقيق، وليس عندي من الفرصة في بقية هذه السبتية سوى كلام نفيس مليح جداً للإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الجزء الأول من كتابه (الجوابُ الصحيحُ) - وياليت تلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى سلك مسلك شيخه في رجاحة العقل، والتواضع للكبار، وعدم هضمهِم بالقولِ الجارحِ والتجهيل، وترك العبارات العسكرية، وترك كثرة تشقيق الوجوه وهي: إما غيرُ مفهومة من الواقع، وإما قابلةٌ للضغط بلا تكرارٍ مُـمِلٍّ بأقسام كثيرة والمعنى واحد -.. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((إن كثيراً من أهل الكتاب يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته إنما أقاموا دينهم بالسيف لا بالهُدى والعلم والآيات؛ فإذا طَلَبوا العلمَ [أي طلبَ المسلمون ذلك] والمناظرة؛ فقيل لهم: (ليس لكم جواب إلا السيف)كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب [يعني التهديد بالسيف، وإلغاءَ واجب الإصغاء إلى الحجة والبرهان]؛ وكان هذا من أعظمِ ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام، وأنه ليس دينَ رسولٍ من عند الله؛ وإنما هو دين مَلِك أقامه بالسيف.. إنه من المعلوم أنَّ السيف [و] لا سيما سيفُ المسلمين، وأهلِ الكتاب: هو تابع للعلم والحجة؛ بل وسيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم [يعني أنَّ اعتقادَهم الباطلَ مبيحٌ لهم الإسكاتَ بالسيف عن سماع الدعوة والحجة].. والسيفُ من جنس العمل [يعني بالعملِ سلوكَهم الذي لا يخضع لغير اعتقادهم، ولا يسمح بالإصغاء إلى حجة أو دعوة].. والعملُ أبداً تابع للعلم والرأي؛ وحينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم، وبيانُ أنَّ ما خالفه ضلال وجهل: هو تثبيتٌ لأصل دين الإسلام، واجتنابٍ لأصل غيره من الأديان التي يُقاتل عليها أهلُها)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا كلام نفيس جداً عن تأصُّل استعمالِ السيف لدى كلِّ ذي دين ومذهب؛ وهكذا مَن لا دين له؛ لفرض مذهبه، أو للدفاع عنه؛ وفي ذلك إظهارُ ميزةِ الإسلام بتراسل براهينه ثلاثة عشر عاماً؛ وهي المدة الأكثر من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمر الله له ولأصحابه بالصبر على الأذى والكف، ثم وسَّع على المضطهدين من أصحابه بالهجرة للحبشة.. ولكنني رأيت في تعليق مُحقِّقي كتاب ابن تيمية (الجوابُ الصحيحُ) هزيمةً روحية اتِّباعاً لسيد قطب رحمهما الله تعالى؛ وذلك بتخليص الجهاد للدفاع وحماية الدعوة، وهذا التنازل هو منطقُ الضعيف أمامَ قوة الأعداء.. والمحقِّق ما قاله الإمام ابن تيمية، إلا أنه لم يُعرِّج على مشروعية الجهاد عند عددٍ من الرسل عليهم صلوات الله وسلامه وبركاتُه، وأنَّ الأديان لا تُقِرُ الشركَ عقيدةً.. ومَن مكَّن الله له من الرسل في الدنيا بقوة وأذن له بالجهاد: فإنه يدعو إلى الله ثم يجاهد؛ وخيرُ نموذجٍ لذلك إعلانُ عبدالله ورسوله سليمان عليه صلواتُ الله وسلامه وبركاته الحربَ على عُبَّادِ الشَّمْسِ في اليمن حتى أَتَوْهُ مسلمين، وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.