أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في يومِ الْأَحَدِ الموافِق 8-8-1437هـ صُلِّيَ على أخي أبي عثمانَ محمدِ بن محمدٍ الشاوي رحمه الله تعالى صلاةَ الْعَصْرِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَدُفِنَ في مَقْبَرَةِ (العدل) التي دُفِنَ فيه سماحةُ الشيخ ابن باز، وَدُفنَ الشاوي بجوارِ صاحبِ السُّمُوِّ الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمهم الله جميعاً.. وفي يوم السبت صُلِّي على مدير عام التعليم بالوشم الشيخ محمد بن عبدالله بن عبدالعزيز المانع بشقراء، وصلَّى عليه الجمع الغفير بحمد الله؛ وذلك على إقبال ليلة الأحد أوَّلِ ليلة من ليالي رمضان المبارك.. أسأل الله أن يَتَغمَّدَ الفقيدان برحمته، وأنْ يجعل قبورنا روضاتٍ من روضات الجنة، وأن يجمعنا بهم وبوالدينا وذرياتنا أهلِيِنا وأقارِبنا وجميع إخواننا المسلمين في دار كرامته، وأن يرحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.. ولو عَلِمْتُ بوفاة الأستاذ الشاوي لَشَدَدْتُ الرِّحالَ للصلاة عليه؛ ولكنَّنِي لم أعْلَمْ إلا بمهاتَفَةٍ من أخي علي بن عبدالله الزَّبِنْ جزاه الله عني خيراً؛ وذلك بعد وفاتِه بما يَقْرُبُ مِن أسبوعٍ.
قال أبوعبدالرحمن: عَتْبِيْ على أبنائه ولا سيما الابن الأكبرُ (عثمان)؛ وليس هذا أَوَّلُ تقصيرهم بحقِّي مع عِلْمِهِم اليقيني بمكانَتِي عند والدِهم، وأنَّه كثيرُ البِرِّ بي قَدَّسَ اللهُ رُوْحَهُ، ونَوَّرَ ضرِيحه؛ فكنتُ أزوره كثيراً في استراحتِه؛ فلما عاد من ألمانيا بعد العلاج بلغني من أخي عبدالله النفيسة أنه في شِبْهِ حالةِ إغماءِ؛ فبادَرْتُ بالاتصالِ الهاتِفِيِّ على ابْنَيْهِ؛ لِيُخْبراني بالوقتِ المناسبِ لزيارَتِه؛ فَبَشَّرَانِي بأنَّ حالَتَه مُسْتَقِرَّةٌ، وطلبا مني تأجيل الزيارةِ حتى يَتَّصِلا بي؛ فطال انتظاري ولمْ يَتَّصِلا بي؛ فواصَلْتُ الاتِّصالَ؛ فَمَرَّةً يَردَّانِ عليَّ، وَمَرَّاتٍ لا يردانِ.. وفي رَدِّهما أخبراني بأنَّه يعرفُ زُوَّارَهُ، ويَصْعُبُ عليه التَّحَدُّثُ مَعَهم؛ وَأَنَّنِي قد أَتَأَثَّرُ نفْسِياً؛ فطلبت منهم بإلحاحٍ أنْ يَدْعُوَاني لزيارتِه حالما يَجِدَا الوقْتَ مناسباً؛ وإلى ذلك الحين لمْ يتصل بي أحد منهما إلى أنْ مضَى قضاءُ الله سبحانَه وتعالى بانتهاء أَجَلهِ.. وَحَزَّ في نفسي ثانية أنَّ أخي الأستاذ علي بن عبدالله الزبن قال لهم في الليلة التي أخبرني فيها بوفاته: (هل عند أبي عبدالرحمن خبر.. هل اتَّصلتم به؟))؛ فقالا أوْ قال أحدهما: ((نظنُّ أنَّ عنده علماً)؛ فيا لِلْعَجَبِ كيفَ أَعْلَمُ وأنا في حالٍ قَلِقَةٍ بين الرجاء واليأس؟!.. سامَحَكُما الله يا أبناء الفقيد الكريم جمعنا الله به في دار كرامَتِه.. إنِّنِيْ (وُدُّ أبِيْكُما؛ وقد حَرَمَنِي إهمالُكُما إيايَّ الصلاةَ عليه بمكَّة المُكَرَّمَة).. لقد لَقِي ربَّه بلا ضَجيج؛ وإنما تفاعَلَ مع الحدثِ الْجَلَلِ الأوْفياءِ ابتداءً بصاحِبَيْ السمو الملكي سعود بن نايف بن عبدالعزيز، ومحمد بن نايف رحمهم الله تعالى جميعاً مهاتَفَةٍ إذْ فاتَهما الذهابُ إلى مَكَّة للصلاة عليه.. والأوفياء من حفدةِ صاحب السمو الملكي الأمير نايف: نواف وفهد ابنا نايف، وعبدالعزيز بن سعود بن نايف؛ فحضرا الصلاة عليه؛ إذْ هما في مَكَّة وشَيَّعاه إلى القبر، وقاما بواجب العزاء جزاهم الله خير الجزاء.
قال أبو عبدالرحمن: وَحَسْبِيْ الآنَ: أَنْ أُبَيِّنَ ما أعلمه من محاسِنِ وفضائلِ الفقيد رحمه الله تعالى.. إنَّه أوَّلاً يَدٌ نَدِيَّةٌ لا تعلم شمالُه ما تُنْفِقُ يمينُه؛ وكانَ يفيضُ على يَدي صدقاتٍ منه على الفقراءِ، ويُلِحُّ عليَّ أنْ تكونَ صَدَقَتُه سِرَّاً، ولم أُبْدِ ذلك لأحَدٍ إلا الآن بَعْدَ أنْ لَقِيَ رَبَّهُ؛ فنحنُ مَأمُوْرُوْنَ بذكْرِ محاسِنِ موتانا، وكانت صدقاتُه نقداً، وأرزاقاً وكِساءً، وَحُلِيّْاً.. ولقد توطَّدَت صلتي بالأستاذ الشاوِي مُنْذُ انتقل من وزارة المواصلات إلى وزارة الداخلية مديراً لمكتب صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز منذ تعيَّنَ سمُّوه رحمهم الله جميعاً.. وظَلَّ في مَنْصبِهِ إلى أنْ لَقِي ربَّه؛ فكانَ نِعْمَ الأمينَ مع ما يقتضيه عَمَلُه، وكان حازماً في عَمَلِهِ، محافظاً على الدوامِ بدافع الولاء الصادِق لدولته، ولرئيسه الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمهم الله الذي يأْسِر بِلُطْفِهِ، وصِدْقِ فِكْرِهِ وعاطِفَتِه معاً.
وقال أبو عبدالرحمن: لقد كان الأستاذ محمد الشاوي -رحمه الله تعالى- جزيل الكرمِ في عطائه، صادقُ الطَّوِيَّةِ في مُؤانسته وَنُصْحِهِ، ولقد أحسن الأستاذ الشاوي تربيةَ أولاده: يُعْطِيْهم الْحُرِّية عن غَيْرِ غَفْلَة، وَيَتَلَطَّفُ إليهم بتَحْبيْبِ طُرُقِ السعادة إليهم عقلاً وشرعاً من غير تشديد، ولا تَأَسْتُذٍ؛ وإنما يُحَرِّكُ مَواهِبَهم؛ فَيَسْتَجيبونَ طوعِيَةً وقناعَة؛ فكانوا مُوَظَّفين ناجحين بالله ثمَّ بِمُؤَهلاتِهم وفي عملِهِم.. ومع الأسف لم أسْتَفِدْ من هذه المشاهدةِ الزَّكِيَّة؛ في تربيتي ذُرِّيتي؛ بل أَغْفِلُ عنها كثيراً، ثم أعَنِّفُ عليهم بشدة؛ ولعلَّ عُذرِي كَثْرةُ لأولادي وحفدتي.. وهكذا رأيت معاملة صاحب السمو الملكي الأمير نايف لأولاده وحفدتِه كبيرهم وصغيرهم؛ فكانوا نُسْخَةً مضيئةً من حزمه وعَزْمِهِ؛ بل له التأثيرُ الغالِبُ في غير ذُرِّيَّتهِ؛ فكم مِن مُغَرَّرٍ به خرج من عنده مُقْتَنِعاً راضياً داعياً له بالخير في السِّرِّ والعلن.. ومِنْ أناة الأستاذ الشاوي أنَّه ناولني بحثاً عن نِسْبَةِ الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى بني النَّمِرِ بن قاسط ؛ فقلت له في حينها: إن هذا رأيٌ تَفَرَّدَ به قائِلُه، وأن الإمام ابن تيمية من الأكراد؛ ولا يضيره ذلك؛ لأن صلاح الدين الأيوبيَّ الكرديَّ مَفْخَرَةٌ للإسلام والمسلمين -رحمه الله تعالى ورضي عنه-؛ وكان شجىً في حلوق الرافِضَةِ، وفي حلوقِ الفاطميين من فروع الباطنية، ونِسْبَتُهم إلى فاطمةَ رضي الله عنها مِن الافتراءِ الأصْلَعِ، ولم يَبْقَ لهم جِذْرٌ في أرض الكنانة على الرُّغْمِ من شِدَّة بَطْشِهم، وعلى الرُّغْم من دعايتهم: (مَنْ سبَّ له إرْدَبْ) يريدون لعنهم الله سَبَّ الصحابةِ رضي الله عنهم، كما أنَّ كتابَ الإمامِ ابن تيمية (اقتضاءُ الصراطِ الْمُسْتَقيم) صارخُ الاعتزازِ بالعرب والعروبة والعربيّة محبةً لِدينهم؛ لكونِهم حَمَلَةَ الشَّريْعَةِ، وبالله ثم بهم كان امتدادُ الرقْعَةِ العربية والإسلاميَّةِ.. كما أنَّه لم يَدَّعِ الانتساب إلى النّمرِ بن قاسط أحدٌ من آبائه وجميع أُسْرَتِهِ؛ وهم أُسْرَةٌ عِلْمِيةٌ ذوو تحقيق في نصوص الشرعِ، ودلالاتِ اللُّغَةِ؛ وهم ذووعلمٍ ومتابعةٍ للتاريخِ الإسلامي.. ولم يدَّعِ الإمامُ ابن تيميَّةَ نَفْسُه الانتسابَ إلى النمر بن قاسط.. إلا أنَّ الأستاذ الشاوِي طلب منِّي إرجاءَ بحثي إلى أنْ نهتدي إلى رأرُجْحاني؛ فحقَّقْتُ طَلَبَه، ولَقِيَ ربَّه ولم أطَّلِعْ بعد على رأْيِه النهائي.. ومن أناتَه: أنني هَمَمْتُ بتحقيق ونشْرِ شيءٍ من شعر والِدِه محمد الشاوي -رحمهما الله تعالى-، مع تحقيق قصيدة الإمام عبداللطيف الأزهري بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله جميعاً.. ولا سِيَّما أبياتُه المليحة:
أمَّا سجاحُ يا جَهُوْلُ فأسلَمَتْ
وربُّكَ تَوَّاب على كلِّ تائبٌ
.. إلخ؛ فاقْترح عليَّ الأناةَ في تحقيق وَنَشْرِ شِعْرِ والدِهِ؛ فاسْتَجَبْتُ له، وأخبرني أن قصيدة الشيخ عبداللطيف يتولَّى تحقيقَها ونشرَها أخي الدكتور علي الزَّبِن ضمن كتابٍ له حفيل عن دعوةِ الشيخ محمد بن عبدالوهاب وآل الشيخ؛ فأرجو من أخي الزَّبنْ المبادرَةَ إلى نشر سِفرِه النفيس وفاءً مع الفقيد.. ومِن أَسْرارِ تَوْفِيق الله للأستاذ الشاوي أنه كان بارَّاً بوالدتِه؛ وهي التي تَوَلَّتْ تربيتَه؛ إذْ تُوُفِّيَ والدُه -رحمه الله تعالى- وهو في بطنِ أُمِّهِ.. ومِن تَرْبَيتها له: أنها دَرَّبَتْه على تَنْمِيَةِ دَخْلِه؛ فإذا اشترى أرضاً تركَهَا ولا يبيعُها إلا لِيَشْتَرِيَّ أكبرَ منها وأثْمن، ويدْعَمُ ذلك بِما وَفَّرَه مِن دَخْلِه، فَتَمَلَّكَ في الرياض وفي جِدَّة؛ فَلَمَّا حَصَّل كفايَتَهُ وكفايَةَ ذُرِّيَّتِه: كان سَخِياً بريعِ ما يملكه، وبما يُوَفِّرُه من راتِبه ومكافآتِ خارِج الدوام والانتداب.. كان سَخِيَّاً للفقراء نقداً وكساءً وَحُلِيّْاً وأرزاقاً كما ذكرت ذلك سابقاً.. وقبل وفاته بثلاث سنوات تقريباً أرسل إليَّ مِئَتَيْ ألف ريال للفقراء والْمُحْتاجين؛ مما وقع بيدي أَشَدُّ بركاتٍ من هذا الْمَبْلَغ؛ فقد نَفسَّ الله كُرُباً كثيرة.. أسأل الله جَلَّتْ قدرتُه أنْ يتغمَّده برحمته، وأن يجمعنا به في دار كرامته مع والدِينا ووالدي والدِينا، وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.