أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أَلْقى أَحَدُ الزملاء حديثاً عن رسالَةِ التَّسامُحِ في الْـمُدَّة الْـمُحَدّْدةِ له؛ وهي نصفُ ساعةٍ؛ وكان حديثاً مُمْتِعَاً، وليس لي مِن مُدَاخَلَةٍ إلا التَّذْكِيرُ برسائل السلامِ عند فلاسفَةِ الخواجاتِ فيما بين عصورهم الْوُسْطى وبين ما يُسَمُّوْنَه عَصْرَ النهضَةِ الحديثةِ مُنْذُ هَيضَةِ (نابليون) على شرقنا العربي والإسلامي؛ وهو سلامٌ لا أقولُ: (إنَّه هَشٌّ)؛ بل أقولُ: (إنه هَشٌ كَذُوْبٌ مَعَاً)؛ وَلْتَكُنْ البدايةُ بِارْتِحالِ فلسفةِ (إمَّا نُوْئِيل كانط)، وقد عُنِي به الدكتور العربي الوديع عثمان أمين، وشِعاره في الإهداء: (أنه هَدِيَّةٌ لطلاب الْـمَثَلِ الأعلى في كل مكان وفي كل زمان).. [انظر مقدمة الدكتور عثمان لكتاب (مشروع للسلام الدائم)/الطبعة الثانية 1966م]..؛ وهذا إيحاءٌ بادئَ ذي بَدْءٍ بخيالِ جمهورية (أفلاطون) وما نُسجَ على منوالها في (المدينة الفاضلة) لدى الفارابي؛ وهي مِثاليَّة تجعل الناس ذوي أُخُوَّةٍ إنسانية لا يَفصِمُها فوارقُ الأديان والأوطان واللغات وخصائصُ كل أمة؛ ثم يكون قانونُها العقلَ، ودستورُها الأخلاقَ!!.. ولا أدري كيف يكون هذا ما دام في نوازع البشر ما هو غير عقلي كَهِيْبيَّة العدمية، وفيها ما هو غير أخلاقي ككلِّ عمل ظلامي عدواني إكرَاهِي؟!.. مع أن (المدينة الفاضلة) ليست نتيجةَ اجتهادٍ في نصوص الإسلام؛ وإنما هي صياغةٌ لفكرٍ أفلاطونيِّ غير إسلامي.. ثم ينتقل بأسرع من كرَّة الطرف إلى مشروع سلام جُزْئي ليس على صفة المثالية الأفلاطونية، وإنما هو على صفة منفعة أُمَّة ذاتِ دينٍ واحدٍ، وهو مشروعُ حِلْفٍ دائم دعا إليه ( الأب دوسان بيير ) 1658 - 1743 م؛ وهو حلف يضمن لدولِ أوربا المسيحية سلامةَ أرضها، وحمايتَها من الإسلام فقط؛ ولا شأن له بأيديولوجيات تَـخلَّت عن المسيحية؛ بل تخلَّتْ عن كل الأديان بفكرٍ وضعي؛ فكيف نُوفِّق بين هذا الخلط عن سلامٍ عامٍّ مثالي، وسلام جزئي لأمة ذات هُوِية واحدة؟.. ثم تأتي قاصمة الظهر بإدراجِ مشروع (كانط) في سياق (السلام المِثالي) بغفلةٍ عن فكر النص؛ ففي آرائه عن الحقوق الدُّوليَّة، وفلسفة التاريخ: ما رشَّح مشروعَه عن السلام الدائم بعد قرن وربع من وفاته لأنْ يكونَ عنواناً لِعُصْبةِ الأمم الحديثة.. و(كانط) عند الدكتور عثمان أكبرُ رُوَّاد الأخلاق في الفلسفة الحديثة؛ وهذه غفلةٌ صلعاء عن دلالة سياقه؛ فالأخلاق عندهغيرُ مُعْتَدٍّ بها لنفسِها؛ بل هي مقبولة إذا كانت مُسَوِّغةً الإيمانَ بالله الذي يَدَّعيه ويراوِ غ حوله.. مع أنَّ حقيقةَ الإيمان ببراهينه قائمة في نفسِها سواءٌ أَصلحتْ أخلاقُ الناس أو فسدت؛ وإنما العبرة بممارسةِ حقيقة الإيمان؛ فإنَّ الأخلاقَ تستقيم حتماً؛ لأن ممارسة الإيمان تُـحَتِّم الوازعَ الديني الأخلاقي مع غياب الرقيب، وأما الأخلاق النفعية التوسُّلِيَّة فإنها تَسْتَبِيحُ مخالفةَ القانونِ إذا غاب الرقيب.. وشعارُ (عصبة الأمم) المذكور آنفاً مستعارٌ من عنوان مشروع (كانط)؛ فقد صرح الرئيسُ الأمريكيُّ (ولسن) الداعي إلى عصبةِ الأمم بأنه مَدِينٌ في هذه الدعوة لدلالة عنوانِ مشروع السلام الدائم الكانطي.. وكونُه مشروعاً دائماً للسلام: يعني أنه يقضي على شرورِ الحروبِ وويلاتها.. مع أنَّ لـ(كانط) مراوغةً تجعل للحروب أثراً حضارياً في التاريخ؛ ولهذه الانعطافة دراسة مُسْتَقلَّة ليست من نصيب هذه السبتية.. وقد ذكر الدكتور عثمان هذا السياق في مقدمته للطبعة الأولى عام 1952 م مع بداية القومِيَّةِ الناصرية، ثم وجدنا في مقدمته للطبعةَ الثانية عام 1967 م العَجَبَ العُجاب في تحوير فلسفة (كانط) بادِّعاءٍ سلوكيٍّ حُرٍّ؛ ولهذه المسألة انعطافة خاصة أيضاً؛ وإنما يهمني كلمة (إيضاح) التي صَدَّر بها الدكتور عثمان مُقَدِّمته للطبعة الثانية.. قال : ((أرى من الواجب عليَّ إبراءً لذمتي، وأداء للأمانة العلمية : أنْ أُبادرَ إلى التصريح للقارئ بأني لم أُترجم هذه الرسالة عن الأصل الألماني مباشرة؛ فإنَّ حظِّي من معرفة اللغة الألمانية ضئيل، ولا يسمح لي بمواجهة النص وحدي من غير دليل؛ وإنما استعنتُ على نقلها إلى العربية بترجمتين فرنسيتين : إحداهما قديمة بقلم ( بارني ) - باريس سنة 1853 م -، والثانية حديثة : بقلم ( جبلان ) باريس سنة 1948م؛ ويحلو لي في هذا المقام أنْ أوجه موفورَ الثناء إلى أستاذنا العلامة (حسين رمزي بك) الذي تفضَّل فأعارني الترجمة الفرنسية القديمة - وهي غيرُ موجودة في مصر -، ولا يسعني إلا أنْ أُسجِّل اعترافي بالجميل لصديقي الدكتور (شفيق شحاتة) الذي أعانني على فهم ما غَمُضَ مِن المصطلحات القانونية).
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أن الترجمة من لغة غير مباشرة يُبْعِد المترجم عن النص الأصلي أكثر من خطوة ما لم يكن هناك سِياقٌ فكري في التراث الإنساني الحديث يَلُمُّ الشتات إلى مدلول النص الأجنبي المُباشِر؛ وهذا ما لم يحصل عليه العربي بَعْدُ إلا في نطاق الترجمة الفرنسية غير المباشرة.. ومشروعُ (كانط) عن السلام الدائمِ سواءٌ أكان خيالياً أم واقعياً: نظرية سياسية بَحْتة، ولكنها لا تنفصل عن أُطروحات نظرية المعرفة في كتب (كانط) الأخرى؛ وهي (العقل المحض)، و(العقل العملي)، و(ملكة الحكم)؛ وهي بخلاف ما جرى عليه الحُواة من كونها تعني ملكة (الذوق)، بل هي أعمُّ من ذلك؛ لأنها ملكة حُكْمٍ على الإحساس الجمالي الذي يُعْرف به هُوِيَّةُ ما هو جميلٌ نسبيٌّ في وجدان مَنْ تَتَفاوتُ مداركُهم وتربيتُهم الفكرية والعلمية؛ وهي مَلَكَةُ حكمٍ بالمستوى الأعلى في الموضوع الخارجي الذي حدث عنه الإحساس بما هو جميل؛ والمستوى الأعلى يبدأ بالأسْمَى، ويتدرَّج في التنازل إلى الأدنى فالأدنى من خلال العقل السَّوِيِّ، والتربية العلمية والثقافية والفكرية الانتقائية.. إلخ؛ فليس الموضوع الذي صدر عنه إحساسُ عاميٍّ فطريٍّ كالموضوع الذي صدر عنه إحساسُ مَنْ ترقَّى وعْيُه الفكريُّ والعلميُّ والثقافي إلى آخر ما انتهى إليه عصره من حقائق كانت مُغَيَّبة عن الأجيال السابقة.. وهكذا ما استجدَّ من إبداع نموذج جمالي يحتضنه العقل السوي المتربِّي تربية ثقافية علمية فكرية سامية، وتسمح سبتيتي هذه بتحليل عنصر واحد من نظرية ( كانط ) عن السلام الدائم، ولا يكاد يستخلص الدارسُ الجادُّ أيَّ عنصرٍ إلَّا بالمناقيش في رُكام التعتيم الكانطي المتَعَمَّد، وإغراقِه بالاحتمالات؛ ولكنك في فوضى السياقِ تجد مَحَطَّاتٍ حاسمةً تفضح ما يخفيه (كانط) من ميول، وتُظهر بجلاء (فكر النص) الذي هو المحطَّةُ الحاسمة في إظهار ما كان يخفيه؛ فإليكم هذا العنصر : قال الدكتور عثمان في مقدمته للطبعة الثانية : (( إنَّ (كانط) كان يعيش في دولة استبدادية متزَّمِّتة - وهي دولة بروسيا في عهد فردريك الأكبر - لم تَدَعْ للمفكر سبيلاً سوى الاسترسال في التجريدات الغامضة، والشطحات الميتافيزيقية، والاقتصار على قدرٍ يسير في الخواطر النظرية عن (قانون الطبيعة) و (قانون الأخلاق) [و(كانط) نفسه غارق في هذا الغموض الثلاثي].. ويجمل أن يُذْكر موقفُ كانط قبل تأليف كتابه عن السلام؛ إذْ وجِداسمه وقد زُجَّ به في نزاع سياسي حادٍّ، وكان تعاطفه مع الثورة الفرنسية تعاطفاً جهيراً أدَّى إلى أن اتَّهمه بعضُ الكُتَّاب بتهمةِ اليعقوبية؛ وهي تهمة خطيرة في تلك الأيام؛ فيتعيَّن علينا أنْ نجعلَ صورةَ ذلك الجوِّ الفكريِّ الإرهابي حاضرةً في أذهاننا، ونحن مضطرون إذن أنْ نترصَّد أيَّ إشارةٍ تسنح فيما بين السطور قد يكون فيها بصيصٌ من نور، وأنْ نصطنِعَ هنا منهجنا في (الجُوَّانية )؛ فنفترض أنَّ كانط سيمضي إلى أقصى ما يستطيع في اتِّـجاهِ حكومةٍ شعبية بالمعنى الصحيح؛ وهو افتراض له أهميته في تفسير كثير من الأفكار الرئيسية [الرئيسية صحيحة ما دامت تعني عناصر مجتمعة لا عُنْصراً واحداً رئيساً] التي يمكن أن تكون مفتاحاً للمذهب الكانطي كله).
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ أنَّ ( قانونُ الأخلاقِ ) عند (كانط) نفعيٌّ افتراضي توسُّلِي، وأما ( قانون الطبيعة ) فهو ميتافيزيقيٌّ يعني في عمومه (العنايةَ الإلهية) من الإله الذي لا يُؤمن به(كانط) على الحقيقة إلَّا بقيدِ أنَّ الإيمانَ وإن كان إيماناً بخرافةٍ في مُعْتقَدِه ينفع إذا حَقَّق غايةً تنسجم مع أيديولوجيته، وعسى الله أنْ يُعِينني في مناسبات قادمة على تحقيق هذا الإيمان التوسُّلي.. وأما طَمَعُ الدكتورِ عثمان في بصيص من نور يرفع عن كانط تُهْمَة اليعقوبية الداوودية الصهيونية: فإنما هو طمع في مستحيل؛ لأن سياقه الفلسفي لن يُـخرجه من مضيق الولاء للهمِّ الصهيوني؛ ولهذا تجد في السياق ما يعترف به الدكتور عثمان نفسه.. قال: ((وتنصُّ المادة الثانية النهائية على أنَّ القانونَ الدولي يجب أنْ يكون قائماً على اتِّـحادٍ من دولٍ حرة [أيْ اكتسبت حُرِّيَّتَها من تفرُّدها في القوة والنفوذ]، وواضح أنَّ (كانط) يُفضِّل الاتحاد على الحلف، ويُؤَمِّل في [الأفصح مِن] حكومةِ أممٍ أو دولةٍ عالَـمِـيَّة هدفاً نهائياً للإنسانية؛ وهو يقرر أنَّ اتحاد الدول أفضل من لا شيئَ؛ ولكنه ليس هو الوسيلةَ المؤكَّدةَ لمنع الحرب؛ فإن هذه الغاية لا تتحقق إلا بحل واحد: (حكومةٌ واحدةٌ للعالم بأسره)!!.. [قال أبوعبدالرحمن: عَلْمَنَةُ الدولةِ الواحِدةِ التي تحكم العالَم ذاتُ جذورٍ تاريخيةٍ بعيدةِ الْـمَدَى في الافتراءِ اليهوديِّ قبل العصر الحديث الذي وُلِدَتْ فيه فِكْرَةُ الدولَةِ الواحِدة، ثم العَلْمَنةُ، ثم صراعُ الحضارات.. إلخ].. ولكنه لا يجهل أنَّ مثلَ هذه الحكومةَ قد تصير استبداداً عالمياً؛ ومن الحكمة إذن أنْ نلتزمَ [أي يَلْتَزِموا هُمْ] الاتحاديةَ الفيدرالية.. وقد كان اعتقاد (كانط) أنَّ تحقيق هذه الفيدرالية ممكن؛ ولعله كان متجهاً بخواطره إلى فرنسا، وربما إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وتعاطُفُه العميق مع الثورة في كلِّ منهما أمر معروف.. وتَحَقُّقُ هذا الاتحاد الفيدرالي في الوجود العِياني يقوم على التأمل التالي: (لو شاءت الأقدار[بل المشيئةُ لله وحدَه مُقَدِّرُ الأقدارِ، ومُغَيِّرُها إذا شاء] يوماً أنْ يقوم شعب قوي مستنير فيكوِّن من نفسه جمهورية من شأنها طِبْقَاً لطبيعتها أنْ تكون نازعةً إلى السلام الأبدي؛ فيومئذ تصبح هذه الجمهورية مركزاً للارتباط العام بين الدول الأخرى التي تستطيع أنْ تنضمَّ إليها، وتكفلَ عى هذا النحو حريةَ تلك الدول وفْقاً لفكرة قانون الأمم؛ وهذا الارتباطُ يزداد اتساعه تدريجياً إلى رقاعٍ أبعدَ كلما تتابعت الدول المُنْضَمَّةِ إليه.. إنَّ التاريخ لم يسلك هذه السبيل منذ القرن التاسع عشر، ولكن الواضح أنَّ (كانط) خطر بباله الدور الذي كان يمكن لفرنسا أو للولايات المتحدة أنْ تقوم به لو أنهما كانتا على وعيٍ تامٍّ بالمهمة الإنسانية التي نَدَبَتْها الأقدار [قال أبو عبدالرحمن: بلْ أهوائهم التي جعلها الله لِـحُرِّيَّةِ اختيارهم، والْـمُكَلَّف مأجور على الخير مُـحاسبٌ على الشَّرِّ؛ لأن الله جعل له حُرِّيَة الاختيارِ، ولا يُحاسِبُه رَبُّهُ إلَّا وَفْقَ قُدْرَتِه] لِحَمْلِها)) .
قال أبو عبدالرحمن: الاتحاد على قُوَّة الدُّول الحرَّة المتنفِّذة اتحاداً فيدرالياً: هو الأَوْلَى عند (كانط)؛ لأنَّ الاتحاد على الحلف يعني أنَّ الحليف ذو قوة لحماية نفسه والدفاع عن أيديولوجيته، ولأن الفيدرالية مِنْحَةٌ مُؤقتة من الدول المتنفِّذة تزول عند قسمة المتنفِّذ الغنائم، ولأنه لا قَدَر ولا قُدْرَة للفيدرالي إلا في الاتكال على وعْدِ المتنفِّذ.. ثم إنَّ (كانط) يُعْلن صراحة ضرورةَ الحكومةِ العالمية الواحدة المبدئية التي تُمَهِّد السبيل لحكومة عالمية واقعية تُفني كثيراً من الخلق كما في نبوءات التلمود (اللاهوت الوضعي)، ثم تظل البقيةُ سيداً ومسوداً؛ والأَخِيْرُونَ هم (الجوييم) لا غير، ويكتمل هذا التصور ببيانِ مذهبِ (كانط) في التعامل مع الأقلية، ومذهبهِ في التعامل مع الجيوش، ومذهبِهِ في الحرب، وأنها في وقتٍ ما تكون ظاهرة حضارية؛ وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.