د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
في كثير من بلاد العالم المتقدّم تتميّز مدينة أو مدينتان أو ثلاث بأنها الأشهر والأكثر جاذبية، ولا تكون إحداها بالضرورة هي العاصمة. لكن مدينة الرياض هي أكبر مدن المملكة وعاصمتها، وأجدر بأن تحوز قصب السبق كمدينة عصرية وجذابة - بما تَحقّق من مظاهر العمران والتحسين البيئي والأحياء التراثية وما هو في طريقه لأن يتحقق من مشاريع النقل العام وغير ذلك. ونحن موعودون على المدى القريب بإنجاز مشاريع كبرى، ما بين مجمّعات سكنية ومنتجعات وتطوير لضواحي الرياض الشرقية والشمالية وتطوير وسط الرياض وإنشاء (82) فندقاً جديداً و(12) مجمّعاً تجارياً (مولات) إلى جانب مشاريع صحية وتعليمية كبرى لأكثر من جهة. هي مشروعات ضخمة سينفق عليها من الدولة والقطاع الخاص مليارات الريالات، وستصبح معالم عصرية تجعل الرياض أكثر جاذبية وازدهاراًً، وجمالاً أيضاً. فقد افتتح سموُّ أمير منطقة الرياض مؤخراً (الجزيرة في 9 / 8 / 1437هـ) عشر حدائق في عدّة مناطق بمدينة الرياض، تضاف إلى المشروعات التجميلية التي تنفذها أمانة منطقة الرياض من متنزهات وتشجير وإضاءة و(ممْشَيَات). لكن مع كل هذا التطوير والتجميل يخطر على البال سؤال: هل بهذا تكتمل صورة المدينة العصرية الجذابة؟ ماذا يشوّه هذه الصورة، ويصنع فارقاً بين الرياض ومدن متحضرة أخرى؟
أولاً - حال الشوارع: سوء حال كثير من شوارع الرياض يلفت النظر، إما للحفر أو لسوء السفلتة أو لعدم تسوية منسوبها. ولكن ما لا يحظى بالاهتمام لأنه يخص المارّة هو أن تجد في وسط شارع طويل جزيرة حسناء مشجّرة بالنخيل أو بدونها، ولكن على جوانب الشارع نفسه أرصفة يرثى لها ما بين انخفاس ونتوء، وأنواع متفاوتة من البلاط، وأطراف مكسورة، ودرجات بعرض الرصيف صاعدة إلى فتحة المحل أو هابطة تحت مستوى الرصيف، وأعمدة من الجبس أو الرخام تتوسط الرصيف لتزيين فتحة المحل، وحوض شجر يعلو مستوى الرصيف، ودلفة باب مفتوحة إلى الخارج، وأحياناً مكيف بارز على ارتفاع قامة الماشي. فإن نظر الماشي إلى أسفل ارتطم رأسه بشيء ما، وإن رفع نظره تعثّر؛ أمّا السير على كرسيّ متحرك أو دفع عربة طفل فحالة الرصيف وأطرافه المرتفعة لا تسمح بذلك. وأمّا الاهتمام فقد خلد إلى الراحة بعد عناء إنشاء الرصيف وتشجير الشارع. إنه غياب (خدمة ما بعد البيع) - إن جاز استعارة هذا المصطلح التجاري. وهي مشكلة مزمنة تطبع معظم خدماتنا ومشاريعنا، وتتمثّل في قصور المحافظة على ما أنشئ أو جُهّز، ومتابعة صيانته، ربما بسبب الانشغال بتنفيذ إنشاءات وتحسينات جديدة اعتمادها مرصود. هذه حال الأرصفة التي لا يدري المارة ما الفائدة منها، ولماذا تبقى في زاوية النسيان، هل لأنها أقل أهمية وليست طارئة تتطلّب العجلة، أم لأنها تحتاج لجهد ووقت واعتمادات - مع أن تكلفة إصلاحها يمكن تحصيلها من أصحاب المحلات. مهما كان السبب فإنها أمانة في عنق الأمانة.
ثانيا - الانضباط المروري: يصعب على القادم للرياض أن يصدّق أنه يعيش في مدينة عصرية فيها كل الخدمات وهو يرى سلوكيات غير حضارية بشوارع الرياض الحديثة تفتقر لأبسط قواعد الانضباط المروري: وقوف مزدوج مثنى وثلاث في الشارع أمام المحلات، عدم التقيّد بالمسار، اندفاع مفاجئ من اليمين لليسار أو للدوران، تغيير الاتجاه بدون إشارة، سرعة غير مسموح بها، قطع الإشارة الحمراء، سيارات متهالكة، الخ. ما هو معروف من مظاهر عدم الانضباط. وكان الظن أن هذه خاصية ملازمة لبلدان العالم الثالث، ولكن السلوك المروري منضبط في إسطنبول مثلاً وفي دبي. ولذا فإن الوصول إلى مستوًى جيّد من الانضباط ليس صعب التحقيق، ولكنه يتطلب تنفيذ حزمة إصلاحات متزامنة أهمّها وأعمقها تأثيراً: التوعية المرورية المستمرة (وليس الموسمية) ليس فقط عن السلوك الحسن في القيادة والتزام الأنظمة وتطبيق تعليمات اللوحات المرورية الإرشادية، بل عن المخالفات وعقوبتها.
- إذا لم يصاحب التوعية رقابة منتشرة بمساعدة الوسائل التقنية (التي أثبتت فعاليتها بالكاميرات ومصائد ساهر)، وأيضاً بتكوين (مباحث) مرورية وتسيير دوريات صغيرة لها صلاحيات كافية.
- التوعية والرقابة المرورية تكون لها نتائج فعّالة، وجهاز المرور يكتسب المصداقية والهيبة، إذا برزت الجدّية والحزم في تطبيق النظام وعقاب المخالفات بدون اعتبار للمركز الاجتماعي أو الرسمي للمخالف. لأن كثرة الاستثناءات والتدخّلات ستؤدي إلى كثرة الخروقات. فإذا عرف المجتمع أن الشخصية الهامة (فلان) قد أخذ جزاء مخالفته - أي طُبّق عليه النظام - فإن في ذلك قدوة حسنة تجعل المجتمع كلّه يقتنع بقوّة النظام وجديّته.
- لا بدّ من دعم الإشراف المروري بتقوية جهاز المرور عدداً وتأهيلاً والتركيز على طبيعة عملهم الميدانية والتعامل مع البلاغات.
- الانضباط المروري يجب أن ينطبع في الذهن قبل الممارسة، أي عند تعلّم قيادة السيارة، ليكون جزءاً من ممارسة القيادة. وهذا لا يتحقق بأسلوبنا الراهن، أي بدورة في الميدان وساعة محاضرة. هذا الوقت لا يكفي لتشبّع الذهن بالثقافة المرورية والتهيئة النفسية قبل استلام الرخصة!
- وأخيراً فإن الانضباط المروري مؤشر حضاري وإنساني، لا يشمل فقط انخفاض عدد الحوادث وشدّة الزحام والتلوّث وتخفيف التوتّر والمضايقات، بل إن الاعتياد على الالتزام بقواعد المرور وأنظمته يجعل الناس أكثر استعداداً للانضباط المطلوب في ثقافة العمل واحترام الوقت والمواعيد والأنظمة وغير ذلك من أمور الحياة المدنية.