سعيد الدحية الزهراني
جملة العنوان مجتزأة من حكمة عالمية نصها (القرية لها آذان كبيرة والمدينة لا آذان لها).. في كناية بليغة تؤشر إلى الاتصالية العالية التي تسكن قُرى الخلق وتعمر حياتهم بالسؤال وبالخبر عن تفاصيل معاش الناس وأحوالهم.. في مقابل ضعف الاتصال والتواصل الذي يحيل حياة المدينة إلى فراغ روحي إنساني موحش..
الذي حصل أن القرية اليوم فقدت آذانها الكبيرة.. باتت بلا آذان ولا قلوب ولا تواصل.. ذات الوحشة التي كست المدينة بلونها الشاحب.. لفت القرى الطيبة برائحة الفراغ.. أصابت القرى لعنة الاتصالية الافتراضية الجديدة.. تلك التي حولت العالم إلى جسد بأوردة تسيل فيها دماء إلكترونية بلا روح..
لا أظن عالم الاتصال الشهير مارشال ماكلوهان كان نبيلاً عندما بشَّر بالنظام الاتصالي الجديد واصفاً إياه بالقرية الكونية.. بالقدر الذي كان فيه خائناً للقرية عندما سلب منها أمّها الاتصالية الأولى.. بل مضللاً للمعنى في الاستعارة التي قدمها في ثوب القرية البريء..
العالم اليوم لم يعد قرية كونية.. إنه مدينة ميتة فاقدة لروح الاتصال والتواصل.. يتجمع الناس في أبنيتها الأسمنتية المصمتة ويسيرون في شوارعها الإزفلتية الجافة كما لو كانوا جثثاً لا حياة فيها.. وهو ذات التوصيف الذي يرتكز إلى فلسفة التجميع والتفتيت مشبهاً الحياة البشرية اليوم بسكان بناية طويلة تملؤها الغرف التي لا يعلم ساكن كل غرفها عما يحصل في الغرفة المجاورة!!
لا أنادي بقطيعة الحياة الإلكترونية الحالية.. هي أمر حتمي وفق فلسفة الحتمية التقنية.. لكننا في المقابل نريد أن نحافظ على ما يمكن المحافظ عليه من بقايا الإنسان فينا.. بدلاً من الإمعان في تأصيل وتطبيع الذوات الافتراضية..
الروح سر الكون.. فاستعيدوا أرواحكم والكون والقُرى!