د.محمد ابن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
حين تقرأ كتاب الله بتمعن، وتقرأ في السنة المطهرة، فإنك تجد أبواب الأمل والرحمة، والرجاء مفتوحة لك على مصراعيها؛ فإن الله أرحم بعباده وحليم عليهم أكبر من رحمة الأم بطفلها.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة).
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغى إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله! وهى تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها.
صحيح البخاري ومسلم.
ومن أسماء الله الحسنى سبحانه الغفور الرحيم، الودود الحليم اللطيف، وغيرها.
وتأتي آيات كريمات تفتح الأمل وتريح النفس، يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، سورة البقرة، الآية 186، ويقول رسوله الكريم في الصحيح: (لو لم تذنبوا لأتي بقوم يذنبون فيستغفرون الله ليغفر لهم)، وإن آخر سورة البقرة وآياتها للمتأمل والمتابع لتفسيرها لتفتح أبواب الرحمة، في علاقة العبد بربه، يقول سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، سورة البقرة، الآية 284، فقد أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت على رسول الله هذه الآية اشتد على الصحابة ذلك، فقالوا لرسول الله وهم جاثون على الركب: كُلفنا من الأعمال ما نطيق من الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية عليك ولا نطيقها؟ فقال لهم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟.. بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقر، بل قولوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فما زال يكررها عليهم، فلما قرؤوها، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، سورة البقرة، الآية 285، فأنزل الله إثرها:{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الآية.
وقد ألقى الله سبحانه الإيمان في قلوبهم واستقر فيه إيماناً واحتساباً، ثم قال الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، الآية وفيها نسخ للآية قبلها. فلما قالوا سمعنا وأطعنا وسلمنا أمرنا إلى الله، ثم قالوا:{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله سبحانه (قد فَعلتُ) ولما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال:(قد فَعلتُ)، ولما قالوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: (قد فَعلتُ)، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ} الآية، قال (قد فعلتُ)، فنسخت هذه الآية ما قبلها.
وهذا من رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد جاءت هذه الآيات وسبب نزولها عند المفسرين بروايات مختلفة، وكلها من رأفة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أمة مرحومة، ودين الإسلام دين يُسر، ومن يُسر الإسلام والتخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما خصص نبيه الكريم في قوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وأحلّت لي المغانم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة يوم القيامة، وكان النبي يرسل لقومه خاصة وكنت نبياً للإنس والجن، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أو امرأة أدركته الصلاة فليصل).
اللهم نسألك أن ترأف بنا وترحمنا، يا أرحم الراحمين.